الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

مختصر شعب الإيمان للإمام البيهقي - 16 شح المرء بدينه

 


16 - السادس عشر من شعب الإيمان

وهو باب في شح المرء بدينه

 

 حتى يكون القذف في النار أحب إليه من الكفر

وذلك لما جاء عن النبي  صلى الله عليه وسلم  فيما

 

1507 - عن أنس قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم :" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه "

أخرجاه في الصحيح من حديث شعبة بن الحجاج .

 

قال البيهقي رحمه الله: فأبان  صلى الله عليه وسلم  بهذا الخبر أن الشح بالدين من الإيمان لأن ذكر الحلاوة مثل الإيمان وأراد أن الشحيح بدينه كالمتطعم بالشيء الحلو ، فكما أن الراغب في الإيمان لا يسلم له مقصوده منه إلا وأن يكون شحيحا به ، فإنه إذا شح بالإيمان لم يأت بما يفسده عليه ، كما أن من وجد حلاوة الحلو لم يأت بما يبطلها عليه والله أعلم .

 

ويدخل في هذا الباب ما اقتصه الله سبحانه وتعالى علينا من خبر شعيب النبي عليه السلام إذ قال له قومه:"( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) فقال لهم:( أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها) إلى آخر الآية

 

 فإن في هذا الباب عدة معان:  مرجعها كلها إلى الشح بالدين.

 أحدها : أن شعيبا عليه السلام سمى مباينه المستكبرين من قومه نجاة . وقد علم أن ضد النجاة الهلكة ، ومن كان عنده أن الكفر هلكة ، والإيمان نجاة لم يكن إلا شحيحا على دينه.

 

 والثاني:  أنه أشار بقوله :(على الله توكلنا )إلي أنه قد فوض أمره إلى الله تعالى فإن عصمه من الجلاء عن الوطن فذلك فضله، وإن خلاهم وما يهمون به من إخراجهم فالجلاء أحب إليه من مفارقة الدين،  وهذا من الشح بالدين لأن الله تعالى جعل الجلاء عن الوطن قرينة القتل .

 

والثالث: أن شعيبا عليه السلام فزغ إلى الله واستنصره ودعاه كما يدعي في الشدائد إذا عرضت له والخطوب،  إذا نزلت فقال :(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) استعظاما منه لما كان يخاطب به وتأميلا أن يدفع الله عنه أذية الكفار فلا يسمعوه في دينه ما يشق عليه سماعه. وهذا أيضا من الشح بالدين ومعلوم أن الله تعالى يقتص علينا هذا ومثله لنتأدب بآداب الذين يصف لنا سيرهم ثم يمدحها ، ونباين مذاهب الذين يصف لنا طرائقهم ثم يذمها ، ونتبع الأحسن من الوجهين دون الأقبح منهما كما  قال عز وجل:( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الآية.

 

فصح أن الشح بالدين من أركان الدين، لا يجد حلاوة الدين من لا يجد الشح به في قلبه، والله أعلم .

وهذا هو الأمر الذي يشهد العقل بصحته لأن من اعتقد دينا ثم لم يكن في نهاية الشح به والإشفاق عليه كان ذلك دلالة على أنه لا يعرف قدره ولا يتبين موضع الحظ لنفسه فيه، ومن كان الحق عنده حقيرا لم يسكن الحق قلبه .وبالله العصمة .

 

ثم إن الشح بالدين ينقسم قسمين :

أحدهما: الشح بأصله كيلا يذهب،  والآخر: الشح بكماله كيلا ينقص ألا ترى أن الله تعالى كما مدح شعيبا عليه السلام وأثنى عليه بأنه شح على دينه فلم يفارقه مع استكراه قومه إياه على مفارقته وكذلك قد مدح يوسف عليه السلام بأن استعصم حين راودته امرأة العزيز عن نفسه:

 و(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) فبان أن الشح على شعب الإيمان كيلا تنقص كالشح على أصله كيلا يذهب . وهذا سبيل كل مضنون به لأن الشحيح بماله كما شح بجماعته فشح بأبعاضه و الشحيح بنفسه يشح بأطرافه كما يشح بجمله بدنه فهكذا الدين . وبالله التوفيق.

 

ومن الشح على الدين أن المؤمن إذا كان بين قوم لا يستطيع أن يوفي الدين حقوقه بين ظهرانيهم ويخشى أن يفتنوه عن دينه وكان إذا فارقهم  يجد لنفسه مأمنا يتبوأه، ويكون فيه أحسن حالا منه بين هؤلاء لم يقم بين ظهرانيهم ، وهاجر إلى حيث يعلم أنه خير له وأوفق قال الله تعالى:( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) .

 

وعلى هذا الوجه كانت هجرة أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من ديار الكفر وليلقوه ويصحبوه ويهاجروا معه، ثم هذا الحكم فيمن لم يمكن إظهار دينه في موضعه باق بعده، وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب السير من كتاب السنن وروينا في كتاب "دلائل النبوة" ما قاسى أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من الشدائد والمكاره بمجاورة الكفار حتى أمروا بالهجرة إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة . والله تعالى يوفقنا لمتابعة سلفنا ، فنعم السلف كانوا لنا. رضي الله عنهم .

 

1509 - عن خباب كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد قال قلت : والله لا أكفر به أبدا حتى تموت ثم تبعث.  قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولدفتأتيني فأقضيك فأنزل الله عز وجل :(أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) أخرجاه في الصحيح من وجه آخر عن الأعمش .

 

1510 - عن عطاء الخرساني قال ككنت عند سعيد بن المسيب فذكرت بلالا فقال: كان شحيحا على دينه وكان يعذب في الله وكان يعذب على دينه فإذا أراد المشركون يقاربهم قال الله الله.

 

1511 -  عن طارق بن شهاب قال: كان خباب من المهاجرين وكان ممن يعذب في الله .

 

1512 - عن الشعبي قال :أعطوهم ما سألوا إلا خباب فجعلوا يلزقون ظهره بالرضف حتى ذهب ماء متنيه.

1516 - عن أنس أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال :" لقد أخفت في الله عز وجل وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله عز وجل وما يؤذى أحد،  ولقد أتى علي وعلى بلال ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

 وحين شكوا إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  ما يصيبهم من البلاء وسألوه الدعاء لكشف ذلك عنهم.

 

1517 - عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو متوسد ببردة له وهو في ظل الكعبة فقلنا : ألا تدعو الله لنا؟  ألا تستنصر الله لنا ؟ قال فجلس محمرا وجهه ثم قال :" والله إن كان من قبلكم ليؤخذ الرجل فتحفر له الحفرة فيوضع المنشار على رأسه،  فيشق اثنتين ما يصرفه عن دينه ، ويُمشط بأمشاط الحديد ما بين عظمه ولحمه ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله عز وجل أو الذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون " أخرجاه في الصحيح من وجه آخر عن إسماعيل .

 

1518 - عن صهيب أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : "كان ملك ممن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال الساحر: إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فلأعلمه السحر فدفع إليه غلاما، فكان يعلمه السحر، وكان بين الملك وبين الساحر راهب ، فأتي الغلام على الراهب فسمع كلامه فأعجبه نحوه وكلامه فكان إذا أتى الساحر ضربه ويقول: ما حبسك؟ فإذا أتى أهله جلس عند الراهب فيبطئ على أهله فإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب. فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي،  فإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر قال : فبينما هم كذلك إذ  أتى يوما على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر،  فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى لك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ورماها فقتلها ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك فقال : أي بني، أنت أفضل مني.  وإنك ستتبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل علي.

 فكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم . وكان جليس للملك فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع . فقال : ما أشفي أنا أحدا ، إنما يشفي الله.

 فإن آمنت دعوت الله فشفاك فآمن فدعا له، فشفاه ثم أتى الملك فجلس معه نحو ما كان يجلس فقال له الملك : يا فلان من رد عليك بصرك؟ قال :ربي. قال :أنا؟ قال :لا ، ولكن ربي وربك الله. قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فبعث إليه فقال أي بني قد بلغ من سحرك أنك تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء . فقال:  ما أشفي أنا أحدا ، إنما يشفي الله .

قال :أنا ؟قال: لا، قال: أو لك رب غيري ؟ قال: نعم ، ربي وربك الله. فأخذه أيضا بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب،  فأتى الراهب،  فقال ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض ، فقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال :إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه ،وإلا فاطرحوه من فوقه . فذهبوا به فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فتدهدهوا أجمعون .وجاء الغلام يمشي حتى دخل على الملك،  فقال: ما فعل أصحابك ؟ فقال: كفانيهم الله.

 قال: فبعث به مع نفر في قرقور، وقال إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون ، وجاء الغلام يمشي حتى دخل على الملك ، فقال : ما فعل أصحابك؟  فقال : كفانيهم الله ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به فإن فعلت ما أمرك به قتلتني وإلا فإنك لن تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد ثم تصلبني على جذع فتأخذ سهما من كنانتي ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إذا فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لن تستطيع قتلي ، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه،  ثم رمى فقال : بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات . فقال الناس:  آمنا برب الغلام ، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك ، وقد آمن الناس كلهم .

فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخدود ، وأضرمت فيها النيران ، وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فاقحموه فيها،  فكانوا يتقاعدون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق" .

رواه مسلم في الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد وقال في الموضعين وجاء الغلام يمشي حتى دخل على الملك وقال قد انكفأت بهم السفينة فغرقوا.

ورواه معمر عن ثابت بإسناده وقال في آخره فجعلهم في الأخدود قال الله عز وجل :( قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود ) حتى بلغ العزيز الحميد

قال عبد الرزاق والأخدود بنجران .

 

1519 - عن بن عباس قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم :" لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة ؟ قالوا :هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها،  كانت تمشطها فوقع المشط من يدها فقالت: بسم الله ، فقالت ابنته أبي؟  فقالت :لا، بل ربي وربك ورب أبيك، فقالت: أخبر بذلك أبي ؟ قالت:  نعم ، فأخبرته فدعا بها ، وبولدها فقال: ألك رب غيري ؟ فقالت : نعم ربي وربك الله - وأظنه قال - فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها . فقالت: لي إليك حاجة ، قال: وما هي ؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعا . فقال: ذلك لك لما لك علينا من الحق فأتى بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيا مرضعا فقال : اصبري يا أماه فإنك على الحق ثم أُلقيت مع ولدها " وقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :"وتكلم أربعة وهم صغار:هذا وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى بن مريم عليه السلام "

 

1521 - عن أبي رافع قال: وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ثم حمل على بطنها رحى عظيمة حتى ماتت .

 

1522 - عن أبي رافع قال : وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا إلى الروم وفيهم رجلا يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي  صلى الله عليه وسلم  فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد فقال له الطاغية: هل لك أن تتنصر وأشركك في ملكي وسلطاني ؟ فقال له عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب

 

 -وفي رواية القطان: وجميع مملكة العرب - على أن أرجع عن دين محمد  صلى الله عليه وسلم  طرفة عين ما فعلت قال: إذا أقتلك ، قال: أنت وذاك , قال : فأمر به فصلب وقال للرماة ارموه قريبا من يديه،  قريبا من رجليه، وهو يعرض عليه وهو يأبي، ثم أمر به فأنزل، ثم دعا بقدر وصب فيها ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبي ، ثم أمر به أن يُلقى فيها فلما ذهب به بكى فقيل له إنه بكى فظن أنه رجع فقال:  ردوه ، فعرض عليه النصرانية فأبي قال:  فما أبكاك إذا ؟ قال : أبكاني أني قلت في نفسي تلقى الساعة في هذا القدر فتذهب فكنت أشتهى أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تلقى في الله عز وجل ، قال له الطاغية : هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟  قال عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين ؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين قال عبد الله: فقلت في نفسي عدو من أعداء الله أقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين لا أبالي، فدنا منه وقبل رأسه فدفع إليه الأساري فقدم بهم على عمر فأخبر عمر خبره فقال عمر: حق على كل مسلم أن يُقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام عمر فقبل رأسه.

 

1524 - عن أنس أن رجلا سأل النبي  صلى الله عليه وسلم  فأعطاه غنما بين جبلين فأتي قومه فقال : أي قوم ، أسلموا. فوالله إن محمدا يعطي عطاء رجل لايخاف الفاقة .

وإن الرجل ليجيء إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه أو أعز عليه من الدنيا بما فيها .

أخرجه مسلم من حديث يزيد بن هارون عن حماد .

 


ليست هناك تعليقات: