الأربعاء، 11 فبراير 2015

مباحث نفيسة من الغياثي 05

مباحث نفيسة من الغياثي 05

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)

]المرتبة الثانية: فيما إذا خلا الزَّمانُ عن المجتهدين وبقي نقلة مذاهب الأئمة[        

 لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظَ، ولا يرجع إلى كَيْسٍ وفطنةٍ وفقهِ طبع؛ فإن تصوير مسائلها أوَّلاً وإيراد صورها على وجوهها ثانياً لا يقوم بها إلا فقيه. ثم نقلُ المذاهبِ بعد استتمامِ التصويرِ لا يتأتَّى إلا من مرموق في الفقه خبيرٍ، فلا ينزلُ نقلُ مسائلِ الفقه منزلةَ نقلِ الأخبار والأقاصيص والآثار. وإن فُرِض النقلُ في الجليات من واثقٍ بحفظه موثوقٍ به في أمانته، لم يمكن فرضُ نقل الخفيات من غيرِ استقلال بالدراية.    

فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل، فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين. فإذا وقعت واقعةٌ، فلا يخلو إما أن يصادِف النقلةُ فيها جواباً من الأئمة الماضين، وإما أن لا يجدوا فيها بعينها جواباً. فإن وجدوا فيها مذهب الأئمةِ منصوصاً عليه، نقلوه واتبعه المستفتون.    
ولا بُدَّ من إزالة استبهامٍ في هذا المقام.
فإذا نَقَلَ الناقلون مذهبَ الشافعي رحمه الله، ونقلوا مذاهبَ عن المجتهدين المتأخرين عن عصره، فالمستفتي يتَّبع أيَّ المذاهب؟، مع اعتقاده أنَّ من بعد الشافعي رضي الله عنه لا يوازيه ولا يدانيه؟ 

من كان من العلماءِ مفتياً، جزم فتواه، ولم يذكر مذهبَ من سواه، ومن قدّر نفسه ناقلا، أحال المراجعين على مذهب الحَبْر المتقدم.
وهذا لائحٌ لا يجحده محصِّل.

فقد تقرر أن الواقعةَ إذا نقل فيها من هو من أهل النقل مذهبَ إمام مُقَدَّمٍ، قد ظهر للمستفتي بما كُلِّفَهُ من النظر أنه أفضل الأئمة الباحثين، فالمستفتي يتبعُ ما صحَّ النقلُ فيه.

]المرتبة الثانية: في خلوِّ الزَّمانِ عن المفتين ونقلة المذاهب[

 مضمون هذه المرتبة ذكرُ متعلّقِ التكاليف إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلةٍ لمذاهب الأئمة الماضين، فماذا يكون مرجع المسترشدين المسفتين في أحكام الدين؟     

 ومِلاكُ الأمر في تصوير هذه المرتبة، أن لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية، ولا تَعْرَى الصدورُ عن حفظ القواعد الشرعية، وإنما تعتاصُ التفاصيلُ والتقاسيمُ والتفريعُ. ولا يجدُ المستفتي من يقضي على حكم الله في الواقعة على التعيين. 

     لا يخفي على من شدا طرفا من التحقيق أنَّ مآخذ الشريعة مضبوطةٌ محصورةٌ، وقواعدَها معدودةٌ محدودةٌ؛ فإن مرجعَها إلى كتاب الله تعالى، وسنةِ رسول الله صل الله عليه وسلم، والآيُ المشتملةُ على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقةُ بالتكاليف في الشريعة متناهية.     
ونحن نعلم أنه لم يُفوّض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون، فكم من أمرٍ تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة، والشرع واردٌ بتحريمه.

ولسنا ننكر تعلُّقَ مسائل الشرع بوجوهٍ من المصالح، ولكنها مقصورةٌ على الأُصول المحصورة، وليست ثابتةً على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح، ومسالك الاستصواب.     
ثم نعلم مع ذلك أنه لا تخلو واقعةٌ عن حكم الله تعالى على المتعبدين.  

للشرع مبني بديع، وأسٌّ هو منشأُ كلِّ تفصيل وتفريع، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية، وهو المشيرُ إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاقِ والحجر، والإباحة والحظر، ولا يتقابل قَط أصلانإلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما، وتنتفي النهايةُ عن مقابله ومناقضه.    

قد حكم الشارع بتنجيس أعيان، ومعنى النجاسة التعبّد باجتناب ما نجَّسه الشرع في بعض العبادات على تفاصيلَ يعرفها حملةُ الشريعة في الحالات، ثم ما يحكمُ الشرعُ بنجاسته ينحصر نصاًّ واستنباطاً، ومالا يحكم الشرع بنجاسته لا نهايةَ له في ضبطنا، فسبيلُ المجتهد أن يطلب ما يُسأل عن نجاسته وطهارته من القسم المنحصر، فإن لم يجده منصوصاً فيه، ولا ملتحقا به بالمسلك المضبوط المعروف عند أهله ألحقه بمقابل القسم ومناقضه، وماحكم بطهارته. 

فاستبان أنه لا يُتَصَوَّرُ والحالةُ هذه خلوُّ واقعةٍ في النجاسة والطهارة عن حكم الله تعالى فيها .
ثم هذا مسلك يطَّرد في جميع قواعد الشريعة، ومنه ينسبط حكمُ الله تعالى على ما لا نهاية له
 وهذا سرٌّ في قضايا التكاليف لا يوازيه مطلوبٌ من هذا الفنٍّ علوًّا وشرفاً

المقصود الكلي من هذه المرتبة أن نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدةً تنزل منزلة القطب من الرَّحى والأُسِّ من المبنى، ونوضح أَنها منشأُ التفاريع، وإليه انصراف الجميع. والمسائلُ الناشئةُ منها تنعطف عليها انعطافَ بني المهود من الحاضنة إلى حِجرها، ويأرِز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها. 


الثلاثاء، 10 فبراير 2015

مباحث نفيسة من الغياثي 04

مباحث نفيسة من الغياثي 04

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)
في خلو الزمان عن المجتهدين ونقلة المذاهب وأصول الشريعة

مضمونُ هذا يستدعي نخلَ الشريعة من مطلَعِها إلى مقطَعِها، وتَتَبُّعَ مصادرِها ومواردِها، واختصاص معاقدِها وقواعدِها، وإنعامَ النظر في أصولِها وفصولِها، ومعرفةَ فروعها وينبوعِها، وسببِ اتفاق العلماء وإطباقِها، وعلةِ اختلافها وافتراقها.
   
]المرتبة الأولى: في اشتمال الزمان على المفتين المجتهدين[
حملةُ الشريعةِ، والمستقلون بها هم المفتون المستجمعون لشرائط الاجتهاد من العلوم، والضامّون إليها التقوى والسداد.
]صفات المفتي[
إن الصفاتِ المعتبرةَ في المفتى ستٌّ:     
أحدها: الاستقلالُ باللغة العربية؛ فإن شريعة المصطفى صل الله عليه وسلم  متلقاها ومستقاها الكتابُ والسننُ وآثارُ الصحابة ووقائعُهم، وأقضيتُهم في الأحكام، وكلها بأفصح اللغات وأشرف العبارات، فلا بد من الارتواء من العربية، فهي الذريعة إلى مدارك الشريعة.
    
والثانية: معرفةُ ما يتعلق بأحكام الشريعة من آيات الكتاب، والإحاطةُ بناسخها ومنسوخها، عامِّها وخاصِّها، وتفسيرِ مجملاتها، فإن مرجعَ الشرع وقطبَه الكتابُ.   

والثالثة: معرفةُ السنن؛ فهي القاعدة الكبرى؛ فإن معظم أصول التكاليف متلقى من أقوال رسول الله صل الله عليه وسلم وأفعاله، وفنونِ أحواله، ومعظمُ آي الكتابِ لا يستقلُّ دون بيان الرسول.

ثم لا يتقرر الاستقلالُ بالسنن إلا بالتبحّر في معرفة الرجال، والعلمِ بالصحيح من الأخبار والسقيمِ، وأسبابِ الجرح والتعديل، وما عليه التعويل في صفات الأثبات من الرواة والثقات، والمسنَدِ والمرسَلِ، والتواريخِ التي يترتب عليها استبانةُ الناسخ والمنسوخ.
وإنما يجب ما وصفناه في الأخبار المتعلقة بأحكام الشريعة، وقضايا التكليف، دون ما يتعلق منها بالوعد والوعيد ،والأقاصيص والمواعظ. 
  
والرابعة: معرفةُ مذاهب العلماءِ المتقدمين الماضين في العصُر الخالية، ووجه اشتراط ذلك أن المفتي لو لم يكن محيطا بمذاهب المتقدّمين، فربَّما يهجم فيما يُجَرِّئُه على خرق الإجماع، والانسلال عن ربقة الوفاق.    
والخامسة: الإحاطة بطرق القياس ومراتبِ الأدلة؛ فإن المنصوصاتِ متناهيةٌ مضبوطة، والوقائعُ المتوقَّعةُ لا نهاية لها.     

والسادسة: الورع والتقوى؛ فإن الفاسقَ لا يوثق بأقواله ولا يعتمد في شيءٍ من أحواله.  
 
وقد جمع الإمام المطَّلبي الشافعيُّ رحمه الله هذه الصفات في كلمة وجيزة، فقال:
"من عرف كتابَ الله نصًّا واستنباطًا استحق الإمامة في الدين"

فهذا ما رأينا نقلَه من قول الأئمة في صفات المفتين. ونحن نذكرُ ما هو المختارُ عندنا في ذلك. والله المستعان.
فالقول الوجيزُ في ذلك:     
أن المفتي هو المتمكنُ من دَرْكِ أحكامِ الوقائع على يسر من غير معاناة تعلم،
وهذه الصفة تستدعي ثلاثةَ أصناف من العلوم:    
أحدها: اللغة والعربية، ولا يُشترط التعمُّقُ والتبحُّر فيها حتى يصيرَ الرجلُ علامةَ العرب، ولا يقعُ الاكتفاءُ بالاستطرافِ وتحصيلِ المبادئ والأطراف، بل القولُ الضابط في ذلك أن يحصّلَ من اللغةِ والعربيةِ، ما يترقى به عن رتبةِ المقلِّدين في معرفة معنى الكتاب والسنة، وهذا يستدعي منصباً وسطاً في علم اللغة و العربية.    
والصنف الثاني من العلوم: الفنُّ المترجمُ بالفقه، ولا بدَّ من التبحُّر فيه، والاحتواءِ على قواعده، ومآخذِه ومعانيه.
ثم هذا الفن يشتمل على ما تَمَسُّ الحاجةُ إليه من نقل مذاهب الماضين وينطوي على ذكر وجوه الاستدلال بالنصوص والظواهر من الكتاب، ويحتوي على الأخبار المتعلقة بأحكام بالتكاليف مع الاعتناءِ بذكر الرواة والصفات المعتبرة في الجرح والتعديل. فإن اقتضت الحالة مزيدَ نظرٍ في خبرٍ، فالكتبُ الحاويةُ على ذكر الصحيح والسقيم عتيدةٌ، ومراجعتها مع الارتواءِ من العربية يسيرةٌ غيرُ عسيرة، وأهمُّ المطالب في الفقه التدرُّب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهذا هو الذي يسمى فقه النفس. وهو أنفس صفات علماءِ الشريعة.  
 
والصنف الثالث من العلوم ـ العلم المشهور بأُصول الفقه؛ ومنه يستبان مراتبُ الأدلة، وما يُقَدَّمُ منها وما يؤخر، ولا يَرقى المرءُ إلى منصب الاستقلال. دون الإحاطة بهذا الفن.     
فمن اسجتمع هذه الفنونَ، فقد علا إلى رتبة المفتين.    

والورع ليس شرطاً في حصولِ منصبِ الاجتهاد؛ فإن من رسخ في العلوم المعتبرة، فاجتهاده يلزمُه في نفسِه أن يَقْتَفِيَ فيما يخصه من الأحكام موجَبَ النَّظَرِ. ولكن الغيرَ لا يثق بقوله لفسقه.  
  
والدليل على وجوب الاكتفاءِ بما ذكرناه من الخصال شيئان:    
أحدهما: أن اشتراط المصيرِ إلى مبلغٍ لا يحتاج معه إلى طلبٍ وتفكر في الوقائع محالٌ؛ إذ الوقائع لا نهايةَ لها، والقوى البشريةُ لا تفي بتحصيل كل ما يتوقع، سيما مع قصر الأعمار؛ فيكفي الاقتدارُ على الوصول إلى الغرض على يسيرٍ من غير احتياجٍ إلى معاناة تعلُّمٍ.

وهذا الذي ذكرناه يقتضي استعدادا واستمدادا من العلوم التي ذكرناها لا محالة.    

والثاني: أنا سبرنا أحوال المفتين من صحب رسول الله صل الله عليه وسلم الأكرمين، فألفيناهم مُقتدرين على الوصول إلى مداركِ الأحكام، ومسالك الحلال والحرام، ولكنهم كانوا مستقلّين بالعربية؛ فإن الكتاب نزل بلسانهم، وما كان يخفى عليهم من فحوى خطاب الكتاب والسنة خافيةٌ، وقد عاصروا صاحبَ الشريعة وعلموا أن معظمَ أفعاله وأقوالِه مناطُ الشرع، واعتَنَوْا على اهتمامٍ صادقٍ بمراجعته صل الله عليه وسلم فيما كان يَسْنَحُ لهم من المشكلات، فَنُزِّلَ ذلك منهم منزلةَ تدرُّب الفقيه منَّا في مسالك الفقه.     
وأما الفنُّ المترجمُ بأصول الفقه، فحاصله نظمُ ما وجدنا من سِيَرِهم، وضمُّ ما بلغنا من خبرهم، وجمعُ ما انتهى إلينا من نظرهم، وتتبُّعُ ما سمعنا من عِبَرِهم، ولو كانوا عكسوا الترتيبَ لاتّبعناهم. 
  
نعم. كان يعتني الكثيرُ منهم بجمع ما بلغ الكافةَ من أخبار رسول الله صل الله عليه وسلم ، بل كانت الواقعةُ تقع، فيُبحث عن كتاب الله، فكان معظمُ الصحابةِ لا يستقلُّ بحفظ القرآن، ثم كانوا يبحثون عن الأخبار فإن لم يجدوها اعتبروا، ونظروا وقاسوا.

فاتضح أن المفتي منهم كان مستعدا لإمكان الطلب عارفاً بمسالك النظر، مقتدراً على مأخذ الحكم مهما عنَّت واقعة.     
فقد تحقق لمن أنصف أن ما ذكرناه في صفات المفتين هو المقطوع به الذي لا مزيد عليه.

المستفتي يتعين عليه ضربٌ من النظر في تعيين المفتى الذي يقلدهُ ويعتمدُهُ، وليس له أن يراجع في مسائلة كلَّ متلقِّب بالعلم.

والذي أراه أن من ظهر ورعُه من العلماءِ وبعُد عن مظانِّ التُّهم، فيجوز للمستفتين اعتمادُ فتواه إذا ذكر أنه من أهل الفتوى؛ فإنا نعلم أن الغريب كان يردُ ويسألُ من يراه من علماءِ الصحابة، وكان ذلك مُشتهِراً مستفيضاً من دأب الوافدين والواردين، ولم يَبْدُ نكيرٌ من جِلَّةِ الصحابة وكبرائهم.

فإذا كان الغرضُ حصولَ غلبةِ ظنِّ المستفتي، فهي تحصلُ باعتماد قول من ظهر ورعُه، كما تحصل باستفاضةِ الأخبار عنه. وليس للمستفتي سبيلٌ إلى الإحاطة بحقيقةِ رتبة المفتي مع عُرُوِّه عن مواد العلوم، سيّما إذا فرض القول في غبيٍّ عريٍّ عن مبادئ العلوم والاستئناس بأطرافها.


الجمعة، 6 فبراير 2015

مباحث نفيسة من الغياثي 03

مباحث نفيسة من الغياثي 03

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)



(قول جامع في الزواجر والسياسات)

لا يكاد يخفى جوازُ دفع الظَّلمة، وإن انتهى الدفعُ إلى شهر الأسلحة؛ فإن من أَجْلَى أصول الشريعة دفعُ المعتدين بأقصى الإمكان عن الاعتداءِ، ولو ثارت فئةٌ زائغةٌ عن الرشاد، وآثروا السعي في الأرض بالفساد، ولم يمنعوا قهراً، ولم يَدْفَعُوا قَسْرًا، لاستجرأَ الظلمةُ، ولتفاقم الأمر.

 فأما إذا اعتدى المعتدون، وظفِرنا بهم، فأُصول الحدود لا تخفى ما بقيت شريعةُ المصطفى

الحدود لا تغير كيفيّاتها، ولا تُبدَّل آلاتُها.


مباحث نفيسة من الغياثي 02

مباحث نفيسة من الغياثي 02

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)


في الحقوق التي تتعلق بالأملاك


فأما القول في المعاملات: فالأصل المقطوعُ به فيها اتباعُ تراضي الملاك، والشاهد من نص القرآن في ذلك، قوله تعالى وعزَّ: ]لا تأكلوا اموالهم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم[.

فالقاعدةُ المعتبرةُ أن الملاكَ مختصُّون بأَملاكهم، لا يزاحمُ أَحَدُّ مالكاً في ملكه من غير حقٍّ مستحق، ثم الضرورةُ تُحوجُ ملاكَ الأَموال التبادل فيها؛ فإن أصحاب الأطعمة قد يحتاجون إلى النقود، وأصحابُ النقود يحتاجون إلى الأطعمة. وكذلك القول في سائر صنوف الأموال.

 فالأمر الذي لا شك فيه تحريمُ التسالب والتغالبِ ومدِّ الأيدي إلى أموال الناس من غير استحقاق، فإذا تراضوا بالتبادل، فالشرع قد يضرب على المتعبِّدين ضروباً من الحجر في كيفية المعاملات استصلاحاً لهم، وطلباً لما هو الأحوط والأغبط، ثم قد يُعقلُ معاني بعضها، وقد لا يعقل عِلَلُ بعضها، والله الخبير بخفايا لطفه فيها.    

 ثم لو تراضى الملاك على تعدِّي الحدودِ في العقد،لم يصح منهم مع التواطئ والتراضي إذا بقيت تفاُصيل الشريعة.

فإذا دَرَست وقد عرف بنو الزمان أنه كان في الشرع تعبُّداتٌ مرعية في العقود، وقد فاتتهم بانقراضِ العلماءِ، وهم لا يأمنون أن يوقعوا العقودَ مع الإخلال بحدود الشرع وتعبداته، على وجوه لو أدركها المفتون؛ لحكموا بفسادها. وليس لهم من العقود بدّ. ووضوح الحاجةِ إليها يغني عن تكلف بسطٍ فيها، فليُصدروا العقود عن التراضي؛ فهو الأَصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل، وليجروا العقود على حكم الصحة


وقد ذكرنا أن الحرام إذا طبق طبقَ الأرض، أخذ الناسُ منه أقدارَ حاجاتهم، لما حققناه من نزول الحاجة في حق العامة منزلة الضرورة في حق الآحاد. وهذا مع بقاء الشريعة بتمامها وجملتها، فكيف إذا مست الحاجة إلى التعامل، ولم يجد الخلق مرجعاً في الشرع يلوذون به؟

والقولُ الضابط في ذلك أن ما لا يُعلم تحريمُه من المعاملات، فلا حجر فيه عند خلو الزمان عن علم التفاصيل.

فأما القولُ في الحقوق المتعلقة بالأموال، فالمسلكُ الوجيز فيه أن الحقوق تنقسم إلى ما يُفرض لمستحقِّين مختصين، وإلى ما يتعلق بالجهات العامة:     

فأما ما يقدَّرُ لأشخاصٍ معيَّنين، كالنفقات وغيرها، فما عُلم في الزمان وجوبُه حكم به، وما لم يعلم بنو الزمان لزومَه، فالأمر يجري فيه على براءَة الذمة.     

فأما القول فيما يتعلق بالجهات العامة من الحقوق

فالواجب إنقاذُ المشرفين على الردى من المسلمين.





مباحث نفيسة من الغياثي 01

الحاجة والضرورة 

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)



باب        

في الأمور الكلية والقضايا التكلفية

أن الحرام إذا طبَّقَ الزمانَ وأهلَه، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدرَ الحاجة، ولا تُشترطُ الضرورةُ التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل
الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته، ولم يتعاط الميتة لهلك. ولو صابر الناس حاجاتهم، وتعدَّوها إلى الضرورة، لهلك الناس قاطبةً، ففي تعدّي الكافةِ الحاجةَ من خوف الهلاك، ما في تعدّي الضرورة في حق الآحاد.

لسنا نعني بالحاجةِ تشوُّفَ الناس إلى الطعام، وتشوقَها إليه، فربَّ مشتهٍ لشيءٍ لا يضره الانكفافُ عنه؛ فلا معتبر بالتشهي والتشوف، فالمرعي إذاً دفعُ الضِّرار، واستمرارُ الناس على ما يقيم قواهم، وربما يستبانُ الشيء بذكر نقيضه.

ومما يُضطر محاولُ البيان إليه أنه قد يتمكن من التنصيص على ما يبغيه بعبارةٍ رشيقةٍ، تُشعر بالحقيقة، والحد الذي يميز المحدودَ عما عداه، وربما لا يصادف عبارةً ناصة، فتقتضي الحالة أن يقتطع عما يريدُ تمييزَه ما ليس منه، نفياً وإثباتاً، فلا يزال يَلقُطُ أطرافَ الكلام ويطويها حتى يُفضي بالتفصيل إلى الغرض المقصود

ويتحصل من مجموع ما نَفينا وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرَّرُوا في الحال أو في المآل، والضرارُ الذي ذكرناه في أدراج الكلام عَنَيْنا به ما يُتَوَقَّعُ منه فسادُ البنية، أو ضعفٌ يصدُّ عن التصرف والتقلب في أمور المعاش.     

ثم يتعين الاكتفاءُ بمقدار الحاجة ويحرم ما يتعلَّق بالترفّه والتنعّم.

 فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحلّ، فيتعيَّن عليهم تركُ الحرام واحتمال الكَلِّ في كسب ما يحلّ، وهذا فيه إذا كان ما يتمكون منه مُغْنياً كافياً دارئاً للضرورات، ساداًّ للحاجة.
فأَما إذا كان لا يسدُّ الحاجة العامة، ولكنه يأخذ مأخذاً ويسد مسداًّ، فيجب الاعنتاءُ بتحصيله، ثم بقية الحاجة يتدارك بما لا يحل، على التفصيل المقدم.  
   
إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل، فنتكلم فيما يحل ويحرم من الأجناس، ثم نتكلم فيما يتعلق بالتصرّف في الأملاك، وحقوق الناس.    

ـ فأما القول فيما يحرم ويحل من أجناس الموجودات، فليس يخفى على أهل الإسلام ـ ما بقيت أصول الأحكام ـ أن مرجع الأدلة السمعية كلِّها كتابُ الله تعالى. وأبين آية في القران في التحريم والتحليل قول الله العزيز ]قُل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمُه إلاَّ أن يكون مَيْتَةً أو دماً مسفوحاً أو لحمَ خِنْزيرٍ[.    

فإذا نُسيت المذاهبُ فما لا يُعلم فيه تحريمٌ يجري على حكم الحِل، والسبب فيه أنه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غيرُ مستندٍ إلى دليل، فإذا انتفى دليل التحريم ثمَّ، استحال الحكم به.    
فإن قيل: كما انتفى الدليلُ على التحريم، انتفى الدليلُ على التحليل.

قلنا: إذا انحسمت مسالك الأدلة في النفي والإثبات، فموجَب انتفائها انتفاءُ الحكم، وإذا انتفى الحكم، التحق المكلفون في الحكم الذي تحقَّق انتفاؤه بالعقلاءِ قبل ورود الشرائع، ولو لم يرد شرعٌ، لما كان على الناس من جهة الله تعالى حجرٌ وحرج، ثم إقدامهم وإحجامهم مع انتفاء الحجر عنهم يستويان، ومقصودُ الإباحة في الشرع انتفاءُ الحرج، واستواءُ الفعل والترك.
وهذا في التحقيق بمثابة انتفاءِ الأَحكام قبل ورود الشرائع.