الاثنين، 18 ديسمبر 2017

مقاصد الشريعة الإسلامية 23

مقاصد الشريعة الإسلامية 23

مقاصد التشريع الخاصة بالمعاملات بين الناس



10
المقصد من العقوبات

        من أكبر مقاصد الشريعة هو حفظ نظام الأمة وليس يحفظ نظامها إلا بسد ثلمات الهرج والفتن والاعتداء ،
وأن ذلك لا يكون واقعا موقعه إلا إذا تولته الشريعة ونفذته الحكومة ، وإلا لم يزدد الناس بدفع الشر إلا سرا ،
كما أشار إليه قوله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل)

 وقد قال الله تعالى : ( وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) إلى أن قال : (أفحكم الجاهلية يبغون) 
كلاما مسوقا مساق  الإنكار والتهديد على كل من يهمس بنفسه حب تلك الحالة ،
 وإن كان سبب النزول خاصا ومن جملة حكم الجاهلية تولى المجنى عليه الانتقام .

        فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزيز وأروش الجنايات ثلاثة أمور :
تأديب الجانى ، وإرضاء المجنى عليه ، وزجر المقتدى بالجناة .

        الأول هو التأديب :
        بإقامة العقوبة على الجانى يزول من نفسه الخبث الذى بعثه على الجناية ،
 والذى يظن أن عمل الجناية أرسخه فى نفسه إذ صار عمليا بعد أن كان نظريا .

 ولذلك فرع الله تعالى على إقامة الحد قوله : 
( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) ، وأعلى التأديب الحدود ؛ لأنها مجعولة لجنايات عظيمة .

 وقد قصدت الشريعة من التشديد فيها انزجار الناس وإزالة خبث الجانى .
 ولذلك متى تبين أن الجناية كانت خطأ لم يثبت فيها الحد .

 ومتى ظهرت شبهة للجانى فقد التحقت بالخطأ فتسقط الحدود بالشبهات ،
ثم إذا ظهر فى الخطأ شئ فى التفريط فى أخذ الحذر يؤدب المفرط بما يفرض من الأدب لمثله .

        وأما الثانى إرضاء المجنى عليه :
فلأن فى طبيعة النفوس الحنق على من يعتدى عليها عمدا والغضب ممن يعتدى خطأ فتندفع إلى الانتقام ،
وهو انتقام لا يكون عادلا أبدا ؛ لأنه صادر عن حنق وغضب تختل معهما الروية وينحجب بهما نور العدل .

        كان من مقاصد الشريعة أن تتولى هى هذه الترضية وتجعل حدا لإبطال الثارات القديمة .
        إرضاء المجنى عليه  أعظم فى نظر الشريعة من معنى تربية الجانى ،
 ولذلك رجح عليه حين لم يكن الجمع بينهما ، وهى صورة القصاص ؛ 
فإن معنى إصلاح الجانى فائت فيها ترجيحا لإرضاء المجنى عليه .

       وأما الأمر الثالث ، وهو زجر المقتدى :
 فهو مأخوذ من قوله تعالى : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين )
 قال ابن العربى فى أحكام القرآن :
 ( إن الحد يردع المحدود ومن شهده وحضره ويتعظ به ويزدجر لأجله ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده ) .

       كل مظهر أثر انزجارا فهو عقوبة ، ولكنه لا يجوز أن يكون زجر العموم بغير العدل ،
فلذلك كان من حكمه الشريعة أن جعلت عقوبة الجانى لزجر غيره فلم تخرج عن العدل فى ذلك

 

 

مقاصد الشريعة الإسلامية 22

مقاصد الشريعة الإسلامية 22

 

مقاصد التشريع الخاصة بالمعاملات بين الناس

مقصد الشريعة من الشهود



9
مقصد الشريعة من الشهود

الإخبار عما يبين الحقوق وتوثيقها .

 فلذلك كان المقصد منهم أن يكونوا مظنة الصدق فيما يخبرون به بأن يكونوا متصفين بما يزعهم عن الكذب .
 والوازع أمران : دينى وهو العدالة ، وخلقى وهو المروءة .

         أما الوازع الخلقى فمنه ما لا يختلف وهو ما كان منبئا بالدلائل النفسانية .
ومنه ما يختلف باختلاف العادات ولا ينبغى الاعتناء به فى علم المقاصد .

        المقصد لتوثيق الحقوق المشهود بها ضبطها وأداؤها عند الاحتياج إليه ، 
وذلك يقتضى كتابة ما يشهد به الشهود .
        تعينت مشروعية كتابة التوثقات . قال الله تعالى : 
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ )
فهذا أصل عظيم للتوثيق ، ولذلك ابتدئ العمل به من عهد النبوة .

        اتصل عمل المسلمين فى الأقطار كلها بكتابة التوثقات فى المعاملات كلها مثل رسوم الأملاك والصدقات ،
وكذلك إثبات صحة رسوم التملك والتعاقد بمثل وضع الختم والخطاب عليها إعلاما بصحتها .

 

مقاصد الشريعة الإسلامية 21

مقاصد الشريعة الإسلامية 21


8
مقاصد أحكام القضاة 

      أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرفاتها بأن مقصدها أن يكون للأمة 
ولاة يسوسون مصالحها ويقيمون العدل فيها وينفذون أحكام الشريعة بينها ؛ 
لأن الشريعة ما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة وتعيين الحقوق لأصحابها 
إلا وهى تريد تنفيذ أحكامها وإيصال الحقوق إلى أربابهاإن رام رائم اغتصابها منهم ،
 وإلا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها .

      لذلك لزم إقامة علماء للشريعة لقصد تبليغها وإقامتها .

      تعين إقامة ولاة لأمورهم ولإقامة قوة تعين أولئك الولاة على تنفيذها ،
فكانت الحكومة والسلطان من لوازم الشريعة ؛ لئلا تكون فى بعض الأوقات معطلة .

     إن أهم المقاصد لتهيئة إقامة الشريعة وتنفيذها هو بث علومها وتكثير علمائها وحملتها .   
    لم يزل الفقهاء يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابط وشروطا كثيرة ما كان السلف يراعونها .

 وأحسن طرق فقهاء الإسلام فى ذلك فيما رأيت طريقة علماء الأندلس وهى مفصلة فى كتب النوازل والتوثيق .

 وأهم أركان نظام القضاء هو القاضى ؛ فإن فى صلاحه وكماله صلاح بقية ما يحف به من الأحوال .

    وقد ظهر أن مقصد الشريعة من القاضى إبلاغه الحقوق إلى طالبيها
 وذلك يعتمد أمورا :
أصالة الرأى ، والعلم ، والسلامة من نفوذ غيره عليه ، والعدالة .

     فأصالة الرأى تستدعى العقل ، والتكليف ، والفطنة ، وسلامة الحواس .

 وفى الحديث : (لا يقضى القاضى وهو غضبان) .

     لا يُستقضى من ليس بفقيه .

     فى الفائق لابن راشد قال لى قاضى مصر نفيس الدين بن شكر :
تجوز تولية المتأهل لمعرفة استخراج المسائل عن مواضعها ، وأيده بأن المجتهد لا يلزمه حفظ آيات الأحكام .

 قال ابن رشد : لكن لا خفاء فى أن هذا تضييق على الخصوم ؛
لأنه يطيل عليهم فصل نوازلهم حتى يفهمها القاضى وفيه وسيلة إلى تولية الجهال .
وكلام ابن رشد هو الصواب ؛ لأن المجتهد غير مطلوب بفصل القضاء بين الناس .

فإذا ولى المجتهد القضاء كان الشرط فيه أضيق من شروط مطلق مجتهد ،

 وقوله : إنه وسيلة إلى تولية الجهال ، وهو كذلك ؛ 
لأن ملكة الاستحصال لا تنضبط ولا يدرك توفرها فى صاحبها إلا العلماء .

فإذا هوى ولاة الجور أو الجهالة تولية أحد من الجهلة القضاء زعموا أنه ،
 وإن لم يكن عالما فهو قادر على استخراج المسائل (وهو غير قادر) ،
 أو لعله وإن كان قادرا لا يصرف همته إلى ذلك ، بخلاف استحضار المسائل فالامتحان فيه لا يخفى .

        أما السلامة من نفوذ غيره عليه فهو مندرج فى اشتراطهم فى صفات القاضى الحر .

        أنا أعلله بأن الرق حق على العبد ،
 فهو محكوم لمالكه لا يسمعه إلا مصانعته فيصير لسيد العبد أثر فى إجراء النوازل التى يباشرها عبده .

وهذا يومئ إلى وجوب تجرد القاضى عن كل ما من شأنه أن يجعله تحت نفوذ غيره .
        قد تكلم العلماء فى عزل القاضى وترددت أنظارهم فى ذلك بناء على اعتباره كوكيل عن الأمير من جهة ،
 وعلى وجوب حرمة هذا المنصب فى نظر الناس من جهة أخرى .

وهى مسألة لها مزيد تعلق بالسلامة من نفوذ غيره عليه ؛ 
لأن العزل غضاضة عليه وتوقعه ينقص من صرامته إن لم يغلبه دينه .

 قال المرازى : إن علم علم القاضى وعدالته ولم يقدح فيه قادح لم يعزل بالشكية ، وسئل عن حاله بسببها سرا .
ومن لم تتحقق عدالته ، فى عزله بمجردها قولان : قال أصبع : يعزل ، وقال غيره : لا يعزل .

 قالوا : ولم يحفظ أن عمر عزل قاضيا ، أى مع كونه عزل الأمراء بمجرد الشكية :
عزل سعد بن أبى وقاص وخالد بن الوليد وشرحبيل . قلت ولا أن الرسول (صل الله عليه وسلم) 
عزل قاضيا ولا أن أبا بكر عزل قاضيا .

        قال بعض المحققين من علمائنا وأظنه ابن عرفة :
 فى عزل القاضى توهين لحرمة المنصب على أنه قد صار فيما بعد عصر السلف
 لصاحب الخطة حق فى بقائها نظرا لضعف آراء وعدالة الأمراء الذين يولون القضاة .

عن مقصد تعيين أنواع الحقوق لأصحابها
 من أن بعض الحقوق قد يجعل لأمانة غير صاحبه ، فاعلم أن شأن الحق أن يكون تصريفه بيد صاحبه .
      جعلت الشريعة المؤتمن على هذه الحقوق هو أولى صاحبى الحق بمباشرته لكونه أدرى باستعماله
مثل : حق تربية الأبناء فى الصغر للأم ، وفى اليفع للأب ،
وحق نظام المعاشرة الزوجية بيد الرجل ؛ لأنه أقرب إلى العدل بدافع الحب والنصح ، وحق إقامة المنزل للمرأة ،
 وحق إدارة الأعمال لعامل القراض ، وعامل المغارسة والمساقى والمزارع .

       وكل مؤتمن على حق فتصرفه فيه منوط بالمصلحة بحسب اجتهاده المستند إلى الوسائل المعروفة فى استجلاب المصالح ،
 فليس له أن يكون فى تصرفه جبارا ولا مضياعا .

      فإذا بدا من المؤتمن خلل فى تصرفه ليس على سبيل الفلتة رجع النظر إلى القضاء بجعل الحق تحت يد أمين على الجانبين .

      فى مقصد التعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها ،
وهو مقصد من السمو بمكانة ، فإن الإبطاء بإيصال الحق الى صاحبه 
عند تعينه بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهوره يثير مفاسد كثيرة .

      منها حرمان صاحب الحق من الانتفاع بحقه وذلك اضرار به .

      ومنها إقرار غير المستحق على الانتفاع بشئ ليس له وهو ظالم للمحق .
وقد أشار إلى هذين قوله تعالى : (لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) البقرة : 188 .

        ومنها استمرار المنازعة بين المحق والمحقوق ، وفى ذلك فساد حصول الاضطراب فى الأمة .
 فإن كان فى الحق شبهة للخصمين ولم يتضح لهما المحق من المحقوق ففى الإبطاء مفسدة بقاء التردد
 فى تعيين صاحب الحق .
 وقد يمتد التنازع بينهما فى ترويج كل شبهته ، وفى كلا الحالين تحصل مفسدة تعريض الأخوة الإسلامية للوهن والانخرام .

        ومنها تطرق التهمة إلى الحاكم فى تريثه بأنه يريد إملال المحق حتى يسأم متابعة حقه فيتركه
 فينتفع المحقوق ببقائه على ظلمه فتزول حرمة القضاء من نفوس الناس وزوال حرمته من النفوس مفسدة عظيمة .
      كان الرسول (صل الله عليه وسلم) يقضى بين الخصوم فى مجلس المخاصمة الواحد ، 
ولم يكن يرجئهم إلى وقت آخر ، كما قضى بين الزبير والأنصارى فى ماء شراج الحرة .

وكما قضى بين كعب بن مالك وعبد الله بن أبى حدرد بالصلح بينهما بالنصف فى دين لكعب على ابن أبى حدرد .

 كما قضى بين رجل ووالد عسيفه أى : أجيرة بإبطال الصلح الواقع بينهما .

 وكما جاء فى ذلك الحديث أن رسول الله (صل الله عليه وسلم) قال لأنيس الأسلمى :
(واغد يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها ، ولم يأمره أن يأتى بها إليه .

       فى صحيح البخارى :
أن رسول الله (صل الله عليه وسلم) بعث أبا موسى الأشعرى إلى اليمن قاضيا وأميرا ثم أتبعه معاذ بن جبل
 فلما بلغ معاذ وجد رجلا موثقا عند أبى موسى فألقى أبو موسى لمعاذ وسادة وقال له :
 انزل . قال معاذ : ما هذا ؟ قال : كان يهوديا فأسلم ثم تهود .

 قال معاذ : لا أجلس حتى يقتل قضاء لله تعالى ثلاث مرات فأمر به أبو موسى فقتل .

وفى كتاب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى وهو قاض بالبصيرة :
 (فاقض إذا فهمت وأنفذ إذا   قضيت) .
       ليس الإسراع بالفصل بين الخصمين وحده محمودا إذا لم يكن الفصل قاطعا لعود المنازعة 
ومقنعا فى ظهور كونه صوابا وعدلا .

 ولذلك قال عمر : ( فاقض إذا فهمت ) .
 

مقاصد الشريعة الإسلامية 20

مقاصد الشريعة الإسلامية 20

مقاصد التشريع الخاصة بالمعاملات بين الناس

 

7
مقاصد أحكام التبرعات

     عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة الخادمة لمعنى الأخوة .
     إنما الذى نريده هنا هو التبرعات المقصود منها التمليك والإغناء وإقامة المصالح المهمة الكائنة فى الغالب بأموال يتنافس فى مثلها المتنافسون ويتشاكس فى الاختصاص بها المتشاكسون .
      المقصد الأول : التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة .

      المقصد الثاني: أن تكون التبرعات صادرة عن طيب نفس لا يخالجه تردد.

     المقصد الثالث: التوسع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرعين.

    المقصد الرابع: أن لا يجعل التبرع ذريعة إلي إضاعة مال الغير من حق وارث أو دائن

مقاصد الشريعة الإسلامية 19

مقاصد الشريعة الإسلامية 19

مقاصد التشريع الخاصة بالمعاملات بين الناس 

 

6
مقاصد الشريعة فى المعاملات المنعقدة
على عمل الأبدان

     الأصلان العظيمان من أصول الثروة ، وهما المال والعمل .
     المعاملات المنعقد على عمل الأبدان هى : إجارة الأبدان والمساقاة والمغارسة والقراض والجعل والمزارعة .
 وهى كلها عقود على عمل المرء ببدنه وعقله ، وعلى قضاء وقت من عمره فى ذلك ما عدا المغارسة ،
 فإن فيها إحضار متمول قليل من جهة عاملها ، وهو الأعواد المغروسة إلا أنها تافهة بالنسبة إلى أهمية العمل .
وكذلك ما يحصل فى المساقاة بقلة من إصلاح دلو وإصلاح الحوض .
فهذه العقود لا تخلو من غرر لعسر انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه ،
 وعسر معرفة العامل ما ينجر إليه من الربح من جراء عمله ، ولعسر انضباط ما ينجر إلى صاحب المال فيها من إنتاج أو عدمه ،
 غير أن الشريعة ألغت هذا الغرر ؛ لأن إضرار مراعاته أشد من إضرار إلغائه ،
 لما فى مراعاته من حرمان كثير من الأمة فوائد السعى والاكتساب .

 وهى أيضا لا تخلو من إضرار يلحق العامل فى احوال كثيرة إذا عمل عمله فى المساقاة أو المزارعة فلم يثمر الشجر ،
أو عمل فى الجعل فلم يحصل المجامل عليه ، أو عمل فى القراض فلم ينض ربح .
 فيكون العامل قد أضاع الوقت وتجشم مشقة العمل ولم يحصل له شئ .
وقد ألغت الشريعة هذا ؛ لأن بقاء أهل العمل بطالين أشد عليهم من أضرار الخيبة فى بعض الأحوال .

        المقاصد الشرعية فيها ثمانية :
        أحدها : تكثير المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان . 
        قد أعطى الأنصار حوائطهم للمهاجرين على أن يكفوهم العمل ولهم نصف الثمرة .
وعامل رسول الله (صل الله عليه وسلم) يهود خيبر على أن عليهم عمل النخل ولهم نصف الثمرة
مع العلم بأن أرض خيبر صارت للمسلمين .؛ لأنها فتحت عنوة .

       الثانى : الترخيص فى اشتمالها على الغرر المتعارف فى أمثالها .
وينبغى أن لا تغفل عن كون الغرر المغتفر هو الغرر فيما يعسر انضباطه من العمل ومدته واختلاف أزمانه من حر وقر .
فأما ما يتيسر فيه ذلك فلابد من ضبطه وبيانه .

      الثالث : التحرر عما يثقل على العامل هذه العقود .

      الرابع : أن هذه العقود لم يعتبر لزوم انعقادها بمجرد القول بل جعلت على الخيار إلى أن يقع الشروع فى العمل عندنا .

 وعندى - محمد الطاهر بن عاشور -  أنه ينبغى أن تكون جميع العقود المشتملة على عمل البدن غير لازمة القول
بل تلزم بالشروع فى العمل

وحيث كان معنى ذلك آيلا إلى خيار العامل كان الوجه أن يضرب للعامل فى هذه العقود آجال لابتداء العمل
كشأن بيع الخيار بما ينفى المضرة عن صاحب المال ؛ مثل إبان ابتداء الخدمة فى المساقاة
وإبان الحراثة فى المزارعة وإبان ابتداء الغرس لذلك العام فى المغارسة كيلا يضيع بالتأخير على صاحب المال عام كامل .

      الخامس : إجازة تنفيل العملة فى هذه العقود بمنافع زائدة على ما يقتضيه العمل بشرط دون تنفيل رب المال .

      السادس : التعجيل بإعطاء عوض عمل العامل بدون تأخير ولا نظرة ولا تأجيل .

لأن العامل مظنة الحاجة إلى الانتفاع بعوض عمله ، إذ ليس له فى الغالب مؤثل مال .
 وفى الحديث القدسى قال الله تعالى : (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) - فذكر - 
(ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) .

 وهذا صادق بتأخير إعطائه أجره وبحرمانه منه بالكلية وإن كان الثانى أشد ،
فجعله كحق لله تعالى ولذلك قال : ( أنا خصمهم ) أى : دون صاحب الحق ،
 وهذا تنويه عظيم بهذا الحق وزجر شديد عن التهاون به .
 وفى حديث ابن عمر وجابر وأنس أن رسول الله (صل الله عليه وسلم) قال :
(أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) 
ولذلك كان تأجيل خدمة المغارسة جائزا تحديده بقدر تبلغه الأشجار أو مدة أو إثمار .
ولا يجوز أن يكون التأجيل إلى مدة تتجاوز إبان الإثمار ، وهو من موجبات فساد العقد .

     السابع : إيجاد وسائل إتمام العمل للعامل فلا يلزم بإتمامه بنفسه .

 ولذلك قالوا فى عامل المساقاة إذا عجز عن الإتمام : إنه يأتى بعامل آخر لا يضر بصاحب الحائط ، 
ولو كان دون العامل الأول فى الأمانة .
وإذا لم يجد من يخلفه فى العمل فإن له أن يبيع حظه فى الثمار إذا بدا صلاحها ويستأجر من يكمل العمل 
ويكون للعامل الأول ما فضل .

      الثامن : الابتعاد عن كل شرط أو عقد يشبه استعباد العامل ،
 بأن يبقى يعمل طوال عمره أو مدة طويلة جدا بحيث لا يجد لنفسه مخرجا .

 

 

مقاصد الشريعة الإسلامية 18

مقاصد الشريعة الإسلامية 18
 

مقاصد التشريع الخاصة بالمعاملات بين الناس

 

الملك والتكسب


5
الملك والتكسب

     لإثراء الأمة وأفرادها طريقان : أحدهما التملك ، والثانى التكسب .

 فالتملك هو أصل الإثراء البشرى ، 
وهو اقتناء الأشياء التى يستحصل منها ما تسد به الحاجة بغلاته أو بأعواضه ، أى أثمانه .

      والأصل الأصيل فى التملك الاختصاص ،
 فقد كان من أصول الحضارة البشرية أن يدأب المرء إلى تحصيل ما يحتاج إليه لتقويم أود حياته وسلامته .

      البنوك : جمع بنك كلمة فرنسية مأخوذة من كلمة : بانكو فى اللغة اللاتينية
ومعناها محل جلوس للكتابة أو مجلس مطلقا ، ثم أطلقت على المقعد الذى يتخذه الصيرفى لصرف النقود ،
ثم توسعوا فيه فصار بمعنى الدار التى يشتغل فيها جماعة من الصيارفة للصرف ، وتحويل الحوالات التجارية والسفاتج .
      كانت أسباب التملك فى الشرع هى :
      ـ الاختصاص بشئ لاحق لأحد فيه كإحياء الموات .
      ـ والعمل فى الشئ مع مالكه كالمغارسة .
      ـ والتبادل بالعوض كالبيع والانتقال من المالك إلى غيره كالتبرعات والميراث .
       أصل الشريعة فى تصرفات الناس فى أموالهم و مملوكاتهم هو :
إطلاق التصرف لهم للأحرار الرشداء منهم فلا ينتقض ذلك الأصل إلا إذا كان المالك غير متأهل
لذلك التصرف وقصور التصرف يكون لصبى أو سفه (أى : اختلال العقل فى التصرف المالى)
أو إفلاس مدين أو عدم حرية أو حجر فى جميع المال ، أو بعضه فهذا فى التبرع مما ادعى الثلث من مريض مرضا مخوفا ،
 ومن تصرف معلق مما بعد الموت وهو الوصية ، وما يؤول إليها من تبرع ، وتبرع ذات الزوج بما زاد على ثلث مالها .

أما التكسب فهو معالجة إيجاد ما يسد الحاجة إما بعمل البدن أو بالمرضاة مع الغير .

وأصول التكسب ثلاثة : الأرض ، والعمل ، ورأس المال .

       للأرض المكانة الأولى فى هذه الأصول الثلاثة .

       أما العمل فهو وسيلة استخراج معظم منافع الأرض .
 وهو أيضا طريق لإيجاد الثروة بمثل الإيجار والاتجار .

       أما رأس المال فوسيلة لإدامة العمل للإثراء ، وهو :
 مال مدخر لإنفاقه فيما يجلب أرباحا  وإنما عد رأس المال من أصول الثروة لكثرة الاحتياج إليه .
 المقصد الشرعى فى الأموال كلها خمسة أمور
رواجها ، ووضوحها ، وحفظها ، وثباتها ،والعدل فيها .

      فالرواج  دوران المال بين أيدى أكثر من يمكن من الناس بوجه حق .

وهو مقصد عظيم شرعى دل عليه الترغيب فى المعاملة بالمال ومشروعية التوثق فى انتقال الأموال من يد إلى أخرى .

      قال النبى (صل الله عليه وسلم) :
 ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة .

      محافظة على مقصد الرواج 
شرعت عقود المعاملات لنقل حقوق الملكية بمعاوضة أو بتبرع وهى من قسم الحاجى كما تقدم .

      تسهيلا للرواج
شرعت عقود مشتملة على شئ من الغرر مثل : المغارسة و السلم والمزارعة والقراض .
حتى عدها بعض علمائنا رخصا باعتبار أنها مستثناة من قاعدة الغرر ، وإن لم يكن فيها تغيير حكم من صعوبة إلى سهولة لعذر .

       لأجل مقصد الرواج
كان الأصل فى العقود المالية اللزوم دون التخيير إلا بشرط .

       من معانى الرواج المقصود انتقال المال بأيد عديدة فى الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه .

       تيسير دوران المال على آحاد الأمة وإخراجه عن أن يكون قادرا فى يد واحدة متنقلا من واحد إلى واحد
 مقصد شرعى ، فهمت الإشارة إليه من قوله تعالى فى قسمة الفئ : 
(كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) . فالدُولة بضم الدال تداول المال وتعاقبه أى : 
كيلا يكون مال الفئ يتسلمه غنى من غنى .

        أوجب الوصية للأقارب بأية :
(كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) .

 ثم نسخ بشرع المواريث المبين فى القرآن والسنة ،
 ولم يجعل لصاحب المال حق فى صرفه بعد موته إلى فى ثلث ماله أن يوصى به لغير وارث ،
 فتم مقصد التوزيع بحكمة وهى جعل المال صائرا إلى قرابة صاحبه ؛ لأن ذلك مما لا تشمئز منه نفسه ،
 ولأن فيه عونا على حفظ المال فى دائرة القبيلة . وإنما تتكون الأمة من قبائلها فيؤول إلى حفظه فى دائرة جامعة الأمة .

        من وسائل رواج الثروة القصد إلى استنفاد بعضها
وذلك بالنفقات الواجبة على الزوجات والقرابة فلم يترك ذلك لإرادة القيم على العائلة بل أوجب الشرع عليه 
الإنفاق بالوجه المعروف .
        من طرق الاستنفاد نفقات التحسين و الترفه ،
وهى وسيلة عظيمة لانتفاع الطبقتين الوسطى والدنيا فى الأمة من أموال الطبقة العليا .
وهى أيضا عون عظيم على ظهور مواهب أهل الصنائع والفنون فى تقديم نتائج أذواقهم وأناملهم .
        الشريعة لم تعمد إلى هذا النوع من الاستنفاد بالطلب الحثيث اكتفاء بما فى النفوس من الباعث عليه .

        من وسائل رواج الثروة تسهيل المعاملات بقدر الإمكان وترجيح جانب ما فيها من المصلحة
على ما عسى أن يعترضها من خفيف المفسدة .

         الأصل فى سهولة الرواج يعتمد :
خفة النقل ، وقبول طول الادخار ، ووفرة الرغبات فى التحصيل ، وتيسر التجزئة إلى أجزاء قليلة .

         أهم ما اصطلح عليه البشر فى نظام حضارتهم المالية وضع النقدين أعواضا للتعامل .

         التعامل بالنقدين أيسر من التعامل بالأعيان من الأشياء من سائر الجهات .

         إلا أن النقدين عند حالة الاضطرار مثل حالة الحصار وحالة الجدب والمجاعة لا تغنى عن أصحابها شيئا ،
فالنقدان عوضان صالحان بغالب أحوال البشر ، وهى أحوال الأمن واليسر والخصب .

        من أحسن ما ظهر فيه مزية التعامل بالنقدين أنه يمكن فيه تمييز البائع من المشترى ؛
 فباذل النقد مشتر وباذل العوض بائع .

        كان كثير من التعامل فى الإسلام فى عهد النبوة حاصلا بطريقة المعاوضة .
فلذلك كثرت المنهيات من بيع الأشياء بأمثالها ؛ لأن غالب تلك البيوع كان يتطرقه الغرر والتغابن ،
 ولعسر ضبط قيمة العوض ، ولكثرة اختلاف صفات وأنواع فى الجودة والرداءة والجدة والقدم .

        ظهر من هذا كله أن من مقاصد الشريعة تكثير التعامل بالنقدين ليحصل الرواج بهما .
        وما أحسب نهى رسول الله (صل الله عليه وسلم) عن استعمال الرجال الذهب والفضة
إلا لحكمة تعطيل رواج النقدين بكثرة الاقتناء المفضى إلى قلتهما .

        أما وضوح الأموال
فذلك إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر ؛ الإمكان ولذلك شرع الإشهاد والرهن فى التداين.
       أما حفظ الأموال
فأصله قول الله تعالى : (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم).
       وقول النبى (صل الله عليه وسلم) فى خطبة حجة الوداع :
 (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا)
 وقوله : (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) .
 وقوله : (من قتل دون ماله فهو شهيد)
 وهو تنويه بشأن حفظ المال والمحافظة عليه وعظم إثم المعتدى عليه .

وإذا كان ذلك حكم حفظ مال الأفراد فحفظ مال الأمة أجل و أعظم .

      حق على ولاة أمور الأمة و متصرفى مصالحها العامة
 النظر فى حفظ الأموال العامة سواء تبادلها مع الأمم الأخرى وبقاؤها بيد الأمة الإسلامية .

فمن الأول : سن أساليب تجارة الأمة مع الأمم الأخرى ،
ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد الأخرى كما فى أحكام التجارة إلى أرض الحرب ،
 وأحكام ما يتخذ من تجار أهل الذمة والحريين على ما يدخلونه من السلع إلى بلاد الإسلام وأحكام الجزية والخراج .

        ومن الثانى : نظام الأسواق والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة .
 وحق على من ولى مال أحد أن يحفظه ،وحق على كل أحد احترام مال غيره ؛
 ولذلك تقرر غرم المتلفات وجعل سببها الإتلاف ولم يلتفت فيها إلى نية الإتلاف ؛ لأن النية لا أثر لها فى ذلك .

         أما إثبات الأموال فأردت به تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة .

فمقصد الشريعة فى ثبات التملك والاكتساب أمور .
      الأول : أن يختص المالك الواحد أو المتعدد بما تملكه بوجه صحيح بحيث لا يكون فى اختصاصه به
وأحقيته تردد ولا خطر . فليس يدخل على أحد فى ملكه منع اختصاصه إلى إذا كان لوجه مصلحة عامة .

      الثانى : أن يكون صاحب المال حر التصرف فيما تملكه أو اكتسبه تصرفا لا يضر بغيره ضرا معتبرا 
ولا اعتداء فيه على الشريعة .

      الثالث : أن لا ينتزع منه بدون رضاه . إذا تعلق حق الغير بالمالك وامتنع من ادائه ألزم بأدائه .
ومن هنا جاء بيع الحاكم والقضاء بالاستحقاق .

ولرعى هذا المقصد كان المتصرف بشبهة فى عقار فائزا بغلاته التى استغلها إلى يوم الحكم عليه
 بتسليم العقار لمن ظهر أنه مستحقه .

      تقريرا لهذا المقصد قررت الشريعة التملك الذى حصل فى زمان الجاهلية بأيدى من صار إليهم فى تلك المدة ومن انتقل إليهم منها .
فقد قال رسول الله (صل الله عليه وسلم) : (أيما دار أو أرض قسمت فى الجاهلية فهى على قسم الجاهلية ،
 و أيما دار أو أرض أدركها الإسلام فلم تقسم فهى على قسم الإسلام) .

       العدل فيها فذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم ، وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها ،
وإما بعوض مع مالكها أو تبرع ، وإما بإرث .

 ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامة ودفع الأضرار .

وذلك فيما يكون من الأموال تتعلق به حاجة طوائف من الأمة لإقامة حياتها ، مثل الأموال التى هى غذاء وقوت ،
 والأموال التى هى وسيلة دفاع العدو عن الأمة مثل اللأمة و الآطام بالمدينة فى زمن النبوة .

فتلك الأموال وإن كانت خاصة بأصحابها إلا أن تصرفهم فيها لا يكون مطلق الحرية كالتصرف فى غيرها .

       فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر :
أنهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبوءة فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام . 
وكانوا يضربون على أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم ؛ ولذلك كان من الحق إبطال الاحتكار فى الطعام .

وفى الموطأ أن عمر بن الخطاب قال :
(لا حكرة فى سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ،
ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده فى الشتاء والصيف ، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء وليملك كيف شاء ) .