الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

مقاصد الشريعة الإسلامية 6

مقاصد الشريعة الإسلامية 6

مقاصد التشريع العامة

 7 - للتشريع مقامين  تغيير وتقرير



       للتشريع مقامين :
       المقام الأول : تغيير الاحوال الفاسدة و إعلان فسادها .
       والتغيير قد يكون إلى شدة على الناس رعيا لصلاحهم ، وقد يكون إلى تخفيف إبطالا لغلوهم .
       ومن حكمة التغيير الحرص على المحافظة عليه ؛ لأنه يتطرقه التساهل من طرفيه فإن كان تغييرا إلى أشد
       تطرقه طلب التفصى منه ، وإن كان إلى أخف تطرقه توهم أن تخفيفه عذر للأمة فى نقصه .

       المقام الثانى : تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهى الأحوال المعبر عنها بالمعروف (يأمرهم بالمعروف) .
       إلا أن هذه الفضائل والصالحات ليست متساوية الفشو فى الأمم والقبائل فلذلك لم يكن للشريعة العامة غنية
      عن تطرق هذه الأمور ببيان أحكامها من وجوب أو ندب أو إباحة ، وبتحديد حدودها التى تناط أحكامها عندها .

      فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل فى الأحوال من أهم ما تقصده شريعة عامة
      كما أنبأ عن ذلك حديث الموطأ والصحيحين أن رسول الله (صل الله عليه وسلم) قال :
      لقد هممت أن أحرم الغيلة فى الرضاع لولا أن قوما من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم

       يحتاج أيضا فيه إلى دفع ما يعلق بالأوهام من العوارض يخيل إليهم أن الصالحات مفاسد لصدورها من المتلبس بالفساد .

       التقرير لا يحتاج الى القول
       يعتبر سكوت الشارع تقريرا لما عليه الناس فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة ؛ لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر .

       ليس مرادنا بالتغيير تغيير أحوال العرب خاصة ولا بالتقرير تقرير أحوالهم
       كذلك بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقرير أحوالهم سواء كانوا العرب أم غيرهم .

       من رحمة الشريعة أنها أبقت الأمم معتادها وأحوالها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على فساد .
 ففى الموطأ أن رسول الله (صل الله عليه وسلم) قال :
 أيما دار أو أرض قسمت فى الجاهلية فهى على قسم الجاهلية ، و أيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهى على قسم الإسلام .

نوط الأحكام الشرعية بمعان و أوصاف لا بأسماء و أشكال
         مالكا سأل أيحل خنزير الماء ؟ فقال : أنتم تقولون خنزير ، وإنه إنما كره إطلاق هذا الاسم على ما يحل أكله .

       إن الأسماء الشرعية إنما تعتبر باعتبار مطابقتها للمعانى الملحوظة شرعا فى مسمياتها عند وضع المصطلحات الشرعية .

       فإذا تغير المسمى لم يكن لوجود الاسم اعتبار .
       بعبارة أشمل لا تكون التسمية مناط الأحكام ، ولكنها تدل على مسمى ذى أوصاف تلك الأوصاف
       هى مناط الأحكام فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصة .

مقاصد الشريعة الإسلامية 5

مقاصد الشريعة الإسلامية 5

مقاصد التشريع العامة 

6 - المساواة

ذلك أن المسلمين مستوون فى الانتساب الى الجامعة الإسلامية بحكم قوله تعالى:
 (إنما المؤمنون إخوة) .
       بناء على الأصل الأصيل وهو أن الإسلام دين الفطرة فكل ما شهدت الفطرة بالتساوى فيه بين المسلمين
 فالتشريع يفرض فيه التساوى بينهم .
وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه .
 ويكون ذلك موكلا الى النظم المدنية التى تتعلق بها سياسة الإسلام لا تشريعه .

         المساواة فى التشريع أصل لا يختلف إلا عند وجود مانع
فلا يحتاج إثبات التساوى فى التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة
 بل يكتفى بعدم وجود مانع من اعتبار التساوى .

        موانع المساواة هى :
 العوارض التى إذا تحققت تقتضى إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة فى ذلك الإلغاء 
أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة .

       قاعدة اعتبار هذه الموانع واعتبار تأثيرها فى منع المساواة 
أن اعتبارها يكون بمقدار تحققها وبمقدار دوامها أو غلبة حصولها .

       إن العوارض المانعة من المساواة فى بعض الأحكام أقسام أربعة :
1-جبلية - 2 شرعية - 3 واجتماعية - 4 وسياسية .

وكلها قد تكون دائمة أو مؤقتة طويلة أو قصيرة .

        فالموانع الجبلية الدائمة كمنع مساواة المرأة للرجل فيما تقصر فيه عنه بموجب أصل الخلقة مثل :
إمارة الجيش والخلافة عند جميع العلماء ، ومثل القضاء فى قول جمهور من علماء الإسلام .
وكمنع مساواة الرجل للمرأة فى حق كفالة الأبناء الصغار .

       يلحق بالجبلى أيضا صفات مكتسبة ناشئة عن قابلية
وعن سعى تترك آثارا فى الخلقة لا يبلغ إلى مثلها إلا من اكتساب أسبابها فتفيد كمله فى الإحساس والتفكير
 مثل تفاوت العقول والمواهب فى الصلاحية لإدراك المدركات الخفية ،
 فلا مساواة بين العالم وغيره فى كل عمل فيه أثر بين لتفاوت الإدراك .

      كان بلوغ مرتبة الاجتهاد موجبا ترجيح صاحبه لولاية القضاء ومانعا من مساواته لمن هو دون مرتبته من العلماء .
وكذلك القرب من مرتبة الاجتهاد بالنسبة لذى البعد عنها .

      الموانع الشرعية :
 تعرف هذه الأصول إما بالقواعد مثل قاعدة حفظ الأنساب فى منع مساواة المرأة للرجل فى إباحة تعدد الأزواج ،
إذ لو أبيح للمرأة لما حصل حفظ لحاق الأنساب .

       الموانع الاجتماعية
منع مساواة الجاهل للعالم فى التصدى للنظر فى مصالح الأمة .
 منع مساواة العبيد للأحرار فى قبول الشهادة .
ومعظم الموانع الاجتماعية نجده مجالا للاجتهاد ولا نجد فيه تحديدات شريعة إلى نادرا .

      الموانع السياسية :
 فهى الأحوال التى تؤثر فى سياسة الأمة فتقتضى إبطال حكم المساواة بين أص
ناف أو أشخاص أو فى أحوال خاصة .

 

مقاصد الشريعة الإسلامية 4

مقاصد الشريعة الإسلامية 4
مقاصد التشريع العامة


5- عموم شريعة الإسلام

      قد أراد الله بحكمته أن يكون الإسلام آخر الأديان التى خاطب الله بها عباده
لذا تعين أن يكون أصله الذى ينبنى عليه وصفا مشتركا بين سائر البشر ومستقرا فى نفوسهم و مرتاضة عليه العقول السليمة منهم،
 ألا وهو وصف الفطرة حتى تكون أحكام الشريعة مقبولة عند أهل الآراء الراجحة من الناس الذين يستطيعون فهم مغزاها
 فيتقبلوا ما يأتيهم منها بنفوس مطمئنة وصدور منثلجة فيتبعوها دون تردد ولا انقطاع .

      العرب اختارهم الله لهذه الأمانة لأنهم يومئذ امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع
   لم تجتمع فى التاريخ لأمة من الأمم ، وتلك هى :
1-جودة الأذهان .
2- وقوة الحوافظ .
3- وبساطة الحضارة والتشريع .
4-والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم .

      فهم بالوصف الأول : أهل لفهم الدين وتلقينه .

      وبالوصف الثانى : أهل لحفظه وعدم الاضطراب فى تلقيه .

      وبالوصف الثالث :
أهل لسرعة التخلق به إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة ولم يكونوا على شريعة معتد بها متماثلة حتى يصمموا على نصرها .

      وبالوصف الرابع :
أهل لمعاشرة بقية الأمم إذ لا حزازات بينهم وبين الأمم الأخرى ،
فإن حزازات العرب ما كانت إلا بين قبائلهم بخلاف الفرس مع الروم ومثل القبط مع الإسرائليين .

       مراعاة عادات الأمم المختلفة هو خلاف الأصل فى التشريع الإلزامى . 
وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عاداتهم .
 لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك فى العادات .

فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العادات
إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم .

       فنحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها بما هى عادات أن يحمل عليها قوم آخرون فى التشريع 
ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك .

نعم يراعى التشريع حمل أصحابها عليها ماداموا لم يغيروها ؛
 لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها فى معاملتهم إذا سكتوا عما يضادها .

      من معنى حمل القبيلة على عاداتها فى التشريع إذا روعى فى تلك العادات شئ يقتضى الإيجاب أو التحريم
 يتضح لنا دفع حيرة و إشكال عظيم يعرض للعلماء فى فهم كثير من نهى الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال
 مثل : تحريم وصل الشعر للمرأة ، وتفليج الأسنان ، والوشم ،

فى حديث ابن مسعود : إن رسول الله (صل الله عليه وسلم) :
 ( لعن الواصلات والمستوصلات ، والواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله )
 فإن الفهم يكاد يضل فى هذا إذ يرى ذلك صنفا من أصناف التزين المأذون فى جنسه للمرأة كالتحمير والخلوق والسواك فيتعجب من النهى الغليظ عنه .

      ووجهه عندى - محمد الطاهر بن عاشور - الذى لم أر من أفصح عنه ،
 أن تلك الأحوال كانت فى العرب أمارات على ضعف حصانة المرأة .
 فالنهى عنها نهى عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها .

       عموم الشريعة سائر البشر فى سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون .

وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس فى كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية ،
 وهى عندى تحتمل أن تتصور بكيفيتين :
        الكيفية الأولى :
أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال
 دون حرج ولا مشقة ولا عسر .

        الكيفية الثانية :
 أن يكون مختلف أحوال العصور و الأمم قابلا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر
كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك
من غير أن يجدوا حرجا ولا عسرا فى الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة .
ومن دون أن يلجأوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العادات   .

    لذا  تعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات
 ومعانى مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد .

مقاصد الشريعة الإسلامية 3

مقاصد الشريعة الإسلامية 3
مقاصد التشريع العامة

 5-طلب الشريعة للمصالح

المصلحة بأنواعها تنقسم قسمين :
 أحدهما : ما يكون فيه حظ ظاهر للناس فى الجبلة يقتضى ميل نفوسهم إلى تحصيله ؛ لأن فى تحصيله ملاءمة لهم .
و مثاله: تناول الأطعمة لإقامة الحياة ، ولبس الثياب ، وقربان النساء .

 والثانى : ما ليس فيه حظ ظاهر لهم .
           ومثاله : توسع الطرقات وتسويتها ، وإقامة الحرس بالليل .

فهذا ونحوه ليس فيه حظ ظاهر لفرد من الأفراد فإن جمهور الناس لا يشعرون بالمنافع التى تنجز إليهم
 من معظم المصالح العمومية ما دامت قائمة وإنما يشعرون بها متى فقدوها
على أن بعض الناس قد يعيش دهرا لا ينتفع ببعض المصالح العامة ، مثل الزمن - المقعد -  بالنسبة
 إلى مصلحة توسيع الطريق وتسويته .

     لكل من قسميى المصلحة خصائص من عناية الشارع .

 فالقسم الأول:
ليس من شأن الشارع أن يتعرض له بالطلب ؛ لأن داعى الجبلة يكفى الشريعة مؤونة توجيه اهتمامها لتحصيله
 وإنما شأنها أن تزيل عنه موانع حصوله ، كمنع الاعتداء على أحد بافتكاك طعامه ولباسه ،
 ولذلك نجد البيع والنكاح فى قسم الإباحة وإن كانا مصلحتين مهمتين يقتضيان لهما حكم الوجوب .

     والقسم الثانى:
يتعرض له التشريع بالتأكيد ويرتب العقوبة على تركه والاعتداء عليه ،
 وقد أوجب بعضه على الأعيان وبعضه على الكفايات بحسب محل المصلحة .

فالذى مصلحته لا تتحقق إلا بأن يقوم به الجميع مثل حفظ النفس يكون واجبا على الأعيان ،
 والذى مصلحته تتحقق بأن يقوم به فرد أو طائفة يجب على الكفاية على الفرد أو على الجماعة كإنقاذ الغريق
وإطفاء النيران الملتهمة الديار .

ومن هذا القسم الإنفاق على الزوجات والأبناء ، ومواساة ذى الحاجة ، وإضافة الغريب ،
 وإجراء الوظائف لمن يقوم بأمور الأمة  .
    ما كان من العوارض المانعة للمصلحة خاصا بنفس صاحبه فعلاجه الموعظة الشرعية والتربية .
وما كان معتديا إلى إضرار الناس بالفعل أو بالقول مثل من يدعو الناس إلى إتباعه فى هذه الرعونات فعلاجه العقوبات .
فولى الأمر يجبر تارك الاكتساب بأن يكتسب لعياله وينفى من يدعو الناس إلى بدعته
 كما نفى عمر صبيغا عن البصرة .

وقد كان عمر ألزم المحتكرين للطعام بأن يبيعوا ما يحتاج الناس إلى شرائه من الحبوب .

       على هذا المنهج تنتهج الشريعة فى المحافظة على أنواع المصالح باعتبار تصرف الناس فيها بالتسامح والتضييق
 فى القسمين المذكورين آنفا  .

فلكل أحد الاختيار فى حقوق الذاتية الثابتة له على غيره التى هى من القسم الأول .
فله أن يسقطها إن شاء ؛ لأن كونها حقوقا له وكونها مطلوبا بها غيره له مظنة حرصة على تقايضها .
فالشريعة تكله إلى الداعى الجبلى وهو داعى حب النفوس والمنافسة فى الاكتساب .
فالإسقاط لا يكون إلا لغرض صحيح ؛ فإن تجاوز ذلك الحد فاختل الداعى الجبلى سمى سفها يمنع صاحبه من التصرف .

     متى تعارضت المصلحتان رجحت المصلحة العظمى ،
 ولهذا قدم القصاص على احترام نفس المقتص منه ؛ لأن مصلحة القصاص عظيمة فى تسكين ثائرة أولياء القتيل
 لتقع السلامة من الثأرات ، وفى انزجار الجناة عن القتل ، وفى إزالة نفس شريرة من المجتمع .

فلو أسقط ولى الدم القصاص زالت أعظم المصالح ، فبقيت مصلحتان أخريان :
      إحداهما : حاصلة من توقع عدم العفو ، والأخرى تحصل باستصلاح حال الجانى بالضرب والسجن ،
فلذلك سقط القصاص بالعفو فيما عدا قتل الغيلة وما عدا الحرابة ؛ لأن عظم الجريمة رجح جانب مصلحة
إزالة نفس ظهر شرها وبعد رجاء خيرها .

      لأجل هذا أيضا كان إتلاف النفوس فى الذب عن الحوزة غرضا صحيحا .

مقاصد الشريعة الإسلامية 2

مقاصد الشريعة الإسلامية 2
 مقاصد التشريع العامة
 
1 - ابتناء مقاصد الشريعة
على وصف الشريعة الاسلامية  الأعظم
وهو الفطرة

      قال الله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ )

       الفطرة : الخلقة ، أى النظام الذى أوجده الله فى كل مخلوق
   الإسلام عقائد وتشريعات وكلها أمور عقلية أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به .

معنى وصف الاسلام بأنه ( فطرت الله ) أن الأصول التى جاء بها الإسلام هى من الفطرة ،
ثم تتبعها أصول وفروع هى من الفضائل الذائعة المقبولة فجاء بها الإسلام وحرض عليها ؛إذ هى من العادات الصالحة 
المتأصلة فى البشر ، والناشئة عن مقاصد من الخير سالمة من الضرر فهى راجعة إلى أصول الفطرة .

        يتفرع لنا من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية الى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها ،
 وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها ، فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة فى الخلقة ،
و التعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة ؛ لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء ، وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة .
والحضارة الحق من الفطرة ؛ لأنها من آثار حركة العقل الذى هو من الفطرة ، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة ؛
لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها .
والمخترعات من الفطرة ؛ لأنها متولدة عن التفكير وفى
الفطرة حب ظهور ما تولد عن الخلقة .

        نحن إذا أجدنا النظر فى المقصد العام من التشريع 
نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها .


 2 - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

    السماحة سهولة المعاملة فى اعتدال ، فهى وسط بين التضييق و التساهل .
     فالمتوسط بين طرفى الإفراط والتفريط هو منبع الكمالات ، ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )
 روى أبو سعيد الخدرى عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فى معنى الأية أن الوسط هو العدل
     ( قال أوسطهم ) أى أعلمهم و أعدلهم وقد شاع هذا المعنى فى الوسط .

      السماحة : هى السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه .

      استقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين .

وفى الحديث الصحيح فى البخارى وغيره :
أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بعث عليا ومعاذا الى اليمن وقال لهما : يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا .
وقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لأصحابه : إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين .
وعن عائشة رضى الله عنها : كان رسول الله  صلي الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .
 والمراد من الإثم ما دلت الشريعة على تحريمه .
      قال الشاطبى : إن الأدلة على رفع الحرج فى هذه الأمة بلغت مبلغ القطع .

 
3 - المقصد العام من التشريع
حفظ نظام الأمة
      المقصد العام من التشريع فيها هو:
            حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان .
ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح عمله ، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذى يعيش فيه .

         قال الله تعالى : 
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
فعلمنا أن الصفات التى أجريت على فرعون كلها من الفساد وأن ذلك مذموم وأن بعثة موسى كانت لإنقاذ بنى إسرائيل من فساد فرعون ،
فعلمنا أن المراد من الفساد غير الكفر ، وإنما هو فساد العمل فى الأرض ؛ لأن بنى إسرائيل لم يتبعوا فرعون فى كفره .

         لقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل كما قد يتوهم
بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم فى الحياة الاجتماعية فإن قوله تعالى : 
(وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ
أنبأنا بأن الفساد المحذر منه هنالك هو إفساد موجودات هذا العالم
وأن الذى أوجد هذا العالم وأوجد فيه قانون بقائه لا يظن فعله ذلك عبثا .

ولولا إرادة انتظامه لما شرع الشرائع الجزئية الرادعة للناس عن الإفساد ،
 فقد شرع القصاص على إتلاف الأرواح وعلى قطع الأطراف .
 وشرع غرم قيمة المتلفات والعقوبة على الذين يحرقون القرى ويغرقون السلع .
    أن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد
وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده فإنه لما كان هو المهيمن على هذا العالم كان فى صلاحه
صلاح العالم وأحواله ؛ ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه ،
 وبصلاح مجموعه وهو النوع كله .

 فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذى هو إصلاح مبدأ التفكير الإنسانى الذى يسوقه إلى التفكير الحق فى أحوال هذا العالم .

 ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنة ؛ لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة ،
كما ورد فى الحديث:
 ( ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) .
وقد قال الحكماء : الإنسان عقل تخدمه الاعضاء .

 ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل وذلك بتفنن التشريعات كلها فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه
يحصل بالتدريج فى مدارج تزكية النفس 

 4 - بيان المصلحة و المفسدة
 
وجبت الدية فى قتل الخطأ على القرابة من القبيلة وليس فيها فى ظاهر الأمر نفع لدافعيها .
   فهي تبدو مصلحة خاصة للقاتل خطأ إذ استبقى ماله
ولو كان النظر إلى تلك المصلحة الخاصة لكان النظر يوجب إلغاء مصلحة القاتل فى مقابلة مضرة أقاربه من قبيلته 
ولكن غوص النظر ينبئنا بأنها روعى فيها نفع عام ، وهو حق المواساة عند الشدائد ؛
ليكون ذلك سنة بين القوم فى تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة فهى نفع مدخر لهم فى نوائبهم ،
مع ما فى ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنزع الإحن من قلوبهم ،
 تلك الإحن التى قد تدفعهم الى الاجتراء على إيذاء القاتل فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم
ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه أو لصار بحالة فقر ، فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق .

       مثال مراعاة مصلحة نظام العالم حياطة الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم
ولو فى الأحوال التى يظن فوات المصلحة من سائر جوانبها كما يقال فى الشيخ الهرم المنهوك
بالمرض الفقير الجاهل الذى لم يبق فيه رجاء نفع ما  .
فهو مع هذه الأحوال محترم النفس محافظة على مصلحة بقاء النفوس ؛
 لأن مصلحة نظام العالم فى احترام بقاء النفوس فى كل حال من الأمر بالصبر على ما يلوح من شدة الأضرار
 اللاحقة لحياة بعض الأحياء كيلا يتطرق الوهم والاستخفاف بالنفوس الى عقول الناس
 فتتفاوت فى ذلك اعتباراتهم تفاوتا ربما يفضى الى خرق سياج النظام .
فالحفاظ على ذلك تأمين للأحياء من تلاعب أهواء نفوسهم بهم وتأمين لنظام العالم من دخول التساهل فى خرم أصوله .

  المصالح الخالصة عزيزة الوجود
فإن تحصيل المنافع المحضة للناس كالمأكل والمسكن لا يحصل إلا بالسعى فى تحصيلها بمشقة الكد والنصب
فإذا حصلت فقد اقترن بها من المضار والآفات ما ينغصها .

 تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز فى طبائع العباد 
 ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقى متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت .
       إن ضابط تحقق ذلك الحد أحد خمسة أمور :
       أولها : أن يكون النفع أو الضر محققا مطردا ، فالنفع المحقق مثل الانتفاع بانتشاق الهواء ،
                وبنور الشمس ، والتبرد بماء البحر أو النهر فى شدة الحر مما لا يدخل فى الانتفاع به ضر غيره .

       الثانى : أن يكون النفع أو غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل .

       الثالث : أن لا يمكن الاجتراء عنه بغيره فى تحصيل الصلاح وحصول الفساد .
العبرة فى مناط الأحكام هو الأحوال الغالبة .

       الرابع : أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساويا لضده معضودا بمرجح من جنسه ،
                  مثل تغريم الذى يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه .

       الخامس : أن يكون أحدهما منضبطا محققا والأخر مضطربا .

       وقال  صلي الله عليه وسلم : 
             (لا يبع بعضكم على بيع بعض) .
 وتفسير قول رسول الله (صلي الله عليه وسلم)  : ( إنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه
إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب ، ونحو هذا مما يعرف به أن البائع
 قد أراد مبايعة السائم فهذا الذى نهى عنه .

 ولو ترك الناس السوم عند أول ما يسوم بها أخذت بشبه الباطل فى الثمن ودخل الباعة فى سومهم المكروه ) .

       قال عز الدين بن عبد السلام :
 قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد :
 أن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها معروفة بالضرورات ، والتجارب والعادات والظنون المعتبرات ،
 فإن خفى شئ من ذلك طلب من أدلته ، فمن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها و مرجوحها فليعرض ذلك
على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبن عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد به عباده
 ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته .

       قد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه المفضول ولكنه قليل .

  مثال  فضل اجتماع المصالح والمفاسد :
 أن الحجر على المريض فيما زاد على ثلث ماله مضرة له ومفسدة تلحقه لكنه مصلحة لورثتهم فقدم حق ورثته فى ثلثى ماله .

 وأن وضع يد غير المالك على الملك مفسدة للمالك ، ولذلك وجب الضمان بالإتلاف
 ولم تعتبر هذه المفسدة فى تصرفات الحكام إذا أخطأوا فى الاجتهاد فى الحكم فلم يجب الغرم على الحاكم
 تقديما لمصلحة إقدام القضاة على مفسدة المحكوم عليه خطأ .

      المنهيات كلها مشتملة على المفاسد .
      باعتبار مقادير المفاسد جعل الصحابة عقوبة اللوطيين (بصيغة التثنية)
الرجم مساوية عقوبة الزانى المحصن سواء كانا محصنين أم لم يكونا محصنين ؛
 لأنهم وجدوا مفسدة ذلك أشد والعذر عن فاعله أبعد .
وجعل على بن أبى طالب عقوبة شارب الخمر مساوية حد القذف لما رأى القذف مظنة لازمة للسكران غالبا .

      عقوبة الحرابة جعلت أشد من عقوبة قتل الغيلة فى التنكيل وعدم قبول العفو
 (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) وجعل قتل الغيلة غير قابل للعفو من الأولياء .