الأربعاء، 11 فبراير 2015

مباحث نفيسة من الغياثي 05

مباحث نفيسة من الغياثي 05

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)

]المرتبة الثانية: فيما إذا خلا الزَّمانُ عن المجتهدين وبقي نقلة مذاهب الأئمة[        

 لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظَ، ولا يرجع إلى كَيْسٍ وفطنةٍ وفقهِ طبع؛ فإن تصوير مسائلها أوَّلاً وإيراد صورها على وجوهها ثانياً لا يقوم بها إلا فقيه. ثم نقلُ المذاهبِ بعد استتمامِ التصويرِ لا يتأتَّى إلا من مرموق في الفقه خبيرٍ، فلا ينزلُ نقلُ مسائلِ الفقه منزلةَ نقلِ الأخبار والأقاصيص والآثار. وإن فُرِض النقلُ في الجليات من واثقٍ بحفظه موثوقٍ به في أمانته، لم يمكن فرضُ نقل الخفيات من غيرِ استقلال بالدراية.    

فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل، فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين. فإذا وقعت واقعةٌ، فلا يخلو إما أن يصادِف النقلةُ فيها جواباً من الأئمة الماضين، وإما أن لا يجدوا فيها بعينها جواباً. فإن وجدوا فيها مذهب الأئمةِ منصوصاً عليه، نقلوه واتبعه المستفتون.    
ولا بُدَّ من إزالة استبهامٍ في هذا المقام.
فإذا نَقَلَ الناقلون مذهبَ الشافعي رحمه الله، ونقلوا مذاهبَ عن المجتهدين المتأخرين عن عصره، فالمستفتي يتَّبع أيَّ المذاهب؟، مع اعتقاده أنَّ من بعد الشافعي رضي الله عنه لا يوازيه ولا يدانيه؟ 

من كان من العلماءِ مفتياً، جزم فتواه، ولم يذكر مذهبَ من سواه، ومن قدّر نفسه ناقلا، أحال المراجعين على مذهب الحَبْر المتقدم.
وهذا لائحٌ لا يجحده محصِّل.

فقد تقرر أن الواقعةَ إذا نقل فيها من هو من أهل النقل مذهبَ إمام مُقَدَّمٍ، قد ظهر للمستفتي بما كُلِّفَهُ من النظر أنه أفضل الأئمة الباحثين، فالمستفتي يتبعُ ما صحَّ النقلُ فيه.

]المرتبة الثانية: في خلوِّ الزَّمانِ عن المفتين ونقلة المذاهب[

 مضمون هذه المرتبة ذكرُ متعلّقِ التكاليف إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلةٍ لمذاهب الأئمة الماضين، فماذا يكون مرجع المسترشدين المسفتين في أحكام الدين؟     

 ومِلاكُ الأمر في تصوير هذه المرتبة، أن لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية، ولا تَعْرَى الصدورُ عن حفظ القواعد الشرعية، وإنما تعتاصُ التفاصيلُ والتقاسيمُ والتفريعُ. ولا يجدُ المستفتي من يقضي على حكم الله في الواقعة على التعيين. 

     لا يخفي على من شدا طرفا من التحقيق أنَّ مآخذ الشريعة مضبوطةٌ محصورةٌ، وقواعدَها معدودةٌ محدودةٌ؛ فإن مرجعَها إلى كتاب الله تعالى، وسنةِ رسول الله صل الله عليه وسلم، والآيُ المشتملةُ على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقةُ بالتكاليف في الشريعة متناهية.     
ونحن نعلم أنه لم يُفوّض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون، فكم من أمرٍ تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة، والشرع واردٌ بتحريمه.

ولسنا ننكر تعلُّقَ مسائل الشرع بوجوهٍ من المصالح، ولكنها مقصورةٌ على الأُصول المحصورة، وليست ثابتةً على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح، ومسالك الاستصواب.     
ثم نعلم مع ذلك أنه لا تخلو واقعةٌ عن حكم الله تعالى على المتعبدين.  

للشرع مبني بديع، وأسٌّ هو منشأُ كلِّ تفصيل وتفريع، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية، وهو المشيرُ إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاقِ والحجر، والإباحة والحظر، ولا يتقابل قَط أصلانإلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما، وتنتفي النهايةُ عن مقابله ومناقضه.    

قد حكم الشارع بتنجيس أعيان، ومعنى النجاسة التعبّد باجتناب ما نجَّسه الشرع في بعض العبادات على تفاصيلَ يعرفها حملةُ الشريعة في الحالات، ثم ما يحكمُ الشرعُ بنجاسته ينحصر نصاًّ واستنباطاً، ومالا يحكم الشرع بنجاسته لا نهايةَ له في ضبطنا، فسبيلُ المجتهد أن يطلب ما يُسأل عن نجاسته وطهارته من القسم المنحصر، فإن لم يجده منصوصاً فيه، ولا ملتحقا به بالمسلك المضبوط المعروف عند أهله ألحقه بمقابل القسم ومناقضه، وماحكم بطهارته. 

فاستبان أنه لا يُتَصَوَّرُ والحالةُ هذه خلوُّ واقعةٍ في النجاسة والطهارة عن حكم الله تعالى فيها .
ثم هذا مسلك يطَّرد في جميع قواعد الشريعة، ومنه ينسبط حكمُ الله تعالى على ما لا نهاية له
 وهذا سرٌّ في قضايا التكاليف لا يوازيه مطلوبٌ من هذا الفنٍّ علوًّا وشرفاً

المقصود الكلي من هذه المرتبة أن نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدةً تنزل منزلة القطب من الرَّحى والأُسِّ من المبنى، ونوضح أَنها منشأُ التفاريع، وإليه انصراف الجميع. والمسائلُ الناشئةُ منها تنعطف عليها انعطافَ بني المهود من الحاضنة إلى حِجرها، ويأرِز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها. 


ليست هناك تعليقات: