الجمعة، 6 فبراير 2015

مباحث نفيسة من الغياثي 01

الحاجة والضرورة 

(الغياثي:هو كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني)



باب        

في الأمور الكلية والقضايا التكلفية

أن الحرام إذا طبَّقَ الزمانَ وأهلَه، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدرَ الحاجة، ولا تُشترطُ الضرورةُ التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل
الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته، ولم يتعاط الميتة لهلك. ولو صابر الناس حاجاتهم، وتعدَّوها إلى الضرورة، لهلك الناس قاطبةً، ففي تعدّي الكافةِ الحاجةَ من خوف الهلاك، ما في تعدّي الضرورة في حق الآحاد.

لسنا نعني بالحاجةِ تشوُّفَ الناس إلى الطعام، وتشوقَها إليه، فربَّ مشتهٍ لشيءٍ لا يضره الانكفافُ عنه؛ فلا معتبر بالتشهي والتشوف، فالمرعي إذاً دفعُ الضِّرار، واستمرارُ الناس على ما يقيم قواهم، وربما يستبانُ الشيء بذكر نقيضه.

ومما يُضطر محاولُ البيان إليه أنه قد يتمكن من التنصيص على ما يبغيه بعبارةٍ رشيقةٍ، تُشعر بالحقيقة، والحد الذي يميز المحدودَ عما عداه، وربما لا يصادف عبارةً ناصة، فتقتضي الحالة أن يقتطع عما يريدُ تمييزَه ما ليس منه، نفياً وإثباتاً، فلا يزال يَلقُطُ أطرافَ الكلام ويطويها حتى يُفضي بالتفصيل إلى الغرض المقصود

ويتحصل من مجموع ما نَفينا وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرَّرُوا في الحال أو في المآل، والضرارُ الذي ذكرناه في أدراج الكلام عَنَيْنا به ما يُتَوَقَّعُ منه فسادُ البنية، أو ضعفٌ يصدُّ عن التصرف والتقلب في أمور المعاش.     

ثم يتعين الاكتفاءُ بمقدار الحاجة ويحرم ما يتعلَّق بالترفّه والتنعّم.

 فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحلّ، فيتعيَّن عليهم تركُ الحرام واحتمال الكَلِّ في كسب ما يحلّ، وهذا فيه إذا كان ما يتمكون منه مُغْنياً كافياً دارئاً للضرورات، ساداًّ للحاجة.
فأَما إذا كان لا يسدُّ الحاجة العامة، ولكنه يأخذ مأخذاً ويسد مسداًّ، فيجب الاعنتاءُ بتحصيله، ثم بقية الحاجة يتدارك بما لا يحل، على التفصيل المقدم.  
   
إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل، فنتكلم فيما يحل ويحرم من الأجناس، ثم نتكلم فيما يتعلق بالتصرّف في الأملاك، وحقوق الناس.    

ـ فأما القول فيما يحرم ويحل من أجناس الموجودات، فليس يخفى على أهل الإسلام ـ ما بقيت أصول الأحكام ـ أن مرجع الأدلة السمعية كلِّها كتابُ الله تعالى. وأبين آية في القران في التحريم والتحليل قول الله العزيز ]قُل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمُه إلاَّ أن يكون مَيْتَةً أو دماً مسفوحاً أو لحمَ خِنْزيرٍ[.    

فإذا نُسيت المذاهبُ فما لا يُعلم فيه تحريمٌ يجري على حكم الحِل، والسبب فيه أنه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غيرُ مستندٍ إلى دليل، فإذا انتفى دليل التحريم ثمَّ، استحال الحكم به.    
فإن قيل: كما انتفى الدليلُ على التحريم، انتفى الدليلُ على التحليل.

قلنا: إذا انحسمت مسالك الأدلة في النفي والإثبات، فموجَب انتفائها انتفاءُ الحكم، وإذا انتفى الحكم، التحق المكلفون في الحكم الذي تحقَّق انتفاؤه بالعقلاءِ قبل ورود الشرائع، ولو لم يرد شرعٌ، لما كان على الناس من جهة الله تعالى حجرٌ وحرج، ثم إقدامهم وإحجامهم مع انتفاء الحجر عنهم يستويان، ومقصودُ الإباحة في الشرع انتفاءُ الحرج، واستواءُ الفعل والترك.
وهذا في التحقيق بمثابة انتفاءِ الأَحكام قبل ورود الشرائع.     



ليست هناك تعليقات: