الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

مقاصد الشريعة الإسلامية 2

مقاصد الشريعة الإسلامية 2
 مقاصد التشريع العامة
 
1 - ابتناء مقاصد الشريعة
على وصف الشريعة الاسلامية  الأعظم
وهو الفطرة

      قال الله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ )

       الفطرة : الخلقة ، أى النظام الذى أوجده الله فى كل مخلوق
   الإسلام عقائد وتشريعات وكلها أمور عقلية أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به .

معنى وصف الاسلام بأنه ( فطرت الله ) أن الأصول التى جاء بها الإسلام هى من الفطرة ،
ثم تتبعها أصول وفروع هى من الفضائل الذائعة المقبولة فجاء بها الإسلام وحرض عليها ؛إذ هى من العادات الصالحة 
المتأصلة فى البشر ، والناشئة عن مقاصد من الخير سالمة من الضرر فهى راجعة إلى أصول الفطرة .

        يتفرع لنا من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية الى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها ،
 وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها ، فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة فى الخلقة ،
و التعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة ؛ لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء ، وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة .
والحضارة الحق من الفطرة ؛ لأنها من آثار حركة العقل الذى هو من الفطرة ، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة ؛
لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها .
والمخترعات من الفطرة ؛ لأنها متولدة عن التفكير وفى
الفطرة حب ظهور ما تولد عن الخلقة .

        نحن إذا أجدنا النظر فى المقصد العام من التشريع 
نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها .


 2 - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

    السماحة سهولة المعاملة فى اعتدال ، فهى وسط بين التضييق و التساهل .
     فالمتوسط بين طرفى الإفراط والتفريط هو منبع الكمالات ، ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )
 روى أبو سعيد الخدرى عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فى معنى الأية أن الوسط هو العدل
     ( قال أوسطهم ) أى أعلمهم و أعدلهم وقد شاع هذا المعنى فى الوسط .

      السماحة : هى السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه .

      استقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين .

وفى الحديث الصحيح فى البخارى وغيره :
أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بعث عليا ومعاذا الى اليمن وقال لهما : يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا .
وقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لأصحابه : إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين .
وعن عائشة رضى الله عنها : كان رسول الله  صلي الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .
 والمراد من الإثم ما دلت الشريعة على تحريمه .
      قال الشاطبى : إن الأدلة على رفع الحرج فى هذه الأمة بلغت مبلغ القطع .

 
3 - المقصد العام من التشريع
حفظ نظام الأمة
      المقصد العام من التشريع فيها هو:
            حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان .
ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح عمله ، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذى يعيش فيه .

         قال الله تعالى : 
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
فعلمنا أن الصفات التى أجريت على فرعون كلها من الفساد وأن ذلك مذموم وأن بعثة موسى كانت لإنقاذ بنى إسرائيل من فساد فرعون ،
فعلمنا أن المراد من الفساد غير الكفر ، وإنما هو فساد العمل فى الأرض ؛ لأن بنى إسرائيل لم يتبعوا فرعون فى كفره .

         لقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة وصلاح العمل كما قد يتوهم
بل أراد منه صلاح أحوال الناس وشؤونهم فى الحياة الاجتماعية فإن قوله تعالى : 
(وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ
أنبأنا بأن الفساد المحذر منه هنالك هو إفساد موجودات هذا العالم
وأن الذى أوجد هذا العالم وأوجد فيه قانون بقائه لا يظن فعله ذلك عبثا .

ولولا إرادة انتظامه لما شرع الشرائع الجزئية الرادعة للناس عن الإفساد ،
 فقد شرع القصاص على إتلاف الأرواح وعلى قطع الأطراف .
 وشرع غرم قيمة المتلفات والعقوبة على الذين يحرقون القرى ويغرقون السلع .
    أن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد
وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده فإنه لما كان هو المهيمن على هذا العالم كان فى صلاحه
صلاح العالم وأحواله ؛ ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه ،
 وبصلاح مجموعه وهو النوع كله .

 فابتدأ الدعوة بإصلاح الاعتقاد الذى هو إصلاح مبدأ التفكير الإنسانى الذى يسوقه إلى التفكير الحق فى أحوال هذا العالم .

 ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنة ؛ لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة ،
كما ورد فى الحديث:
 ( ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) .
وقد قال الحكماء : الإنسان عقل تخدمه الاعضاء .

 ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل وذلك بتفنن التشريعات كلها فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه
يحصل بالتدريج فى مدارج تزكية النفس 

 4 - بيان المصلحة و المفسدة
 
وجبت الدية فى قتل الخطأ على القرابة من القبيلة وليس فيها فى ظاهر الأمر نفع لدافعيها .
   فهي تبدو مصلحة خاصة للقاتل خطأ إذ استبقى ماله
ولو كان النظر إلى تلك المصلحة الخاصة لكان النظر يوجب إلغاء مصلحة القاتل فى مقابلة مضرة أقاربه من قبيلته 
ولكن غوص النظر ينبئنا بأنها روعى فيها نفع عام ، وهو حق المواساة عند الشدائد ؛
ليكون ذلك سنة بين القوم فى تحمل جماعاتهم بالمصائب العظيمة فهى نفع مدخر لهم فى نوائبهم ،
مع ما فى ذلك من إرضاء أولياء القتيل حتى تنزع الإحن من قلوبهم ،
 تلك الإحن التى قد تدفعهم الى الاجتراء على إيذاء القاتل فإن فرحهم بمال الدية الكثير يجبر صدعهم
ولو كلف القاتل دفع ذلك لأعوزه أو لصار بحالة فقر ، فبذلك كله حصلت مقاصد الأمن والمواساة والرفق .

       مثال مراعاة مصلحة نظام العالم حياطة الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم
ولو فى الأحوال التى يظن فوات المصلحة من سائر جوانبها كما يقال فى الشيخ الهرم المنهوك
بالمرض الفقير الجاهل الذى لم يبق فيه رجاء نفع ما  .
فهو مع هذه الأحوال محترم النفس محافظة على مصلحة بقاء النفوس ؛
 لأن مصلحة نظام العالم فى احترام بقاء النفوس فى كل حال من الأمر بالصبر على ما يلوح من شدة الأضرار
 اللاحقة لحياة بعض الأحياء كيلا يتطرق الوهم والاستخفاف بالنفوس الى عقول الناس
 فتتفاوت فى ذلك اعتباراتهم تفاوتا ربما يفضى الى خرق سياج النظام .
فالحفاظ على ذلك تأمين للأحياء من تلاعب أهواء نفوسهم بهم وتأمين لنظام العالم من دخول التساهل فى خرم أصوله .

  المصالح الخالصة عزيزة الوجود
فإن تحصيل المنافع المحضة للناس كالمأكل والمسكن لا يحصل إلا بالسعى فى تحصيلها بمشقة الكد والنصب
فإذا حصلت فقد اقترن بها من المضار والآفات ما ينغصها .

 تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز فى طبائع العباد 
 ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقى متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت .
       إن ضابط تحقق ذلك الحد أحد خمسة أمور :
       أولها : أن يكون النفع أو الضر محققا مطردا ، فالنفع المحقق مثل الانتفاع بانتشاق الهواء ،
                وبنور الشمس ، والتبرد بماء البحر أو النهر فى شدة الحر مما لا يدخل فى الانتفاع به ضر غيره .

       الثانى : أن يكون النفع أو غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل .

       الثالث : أن لا يمكن الاجتراء عنه بغيره فى تحصيل الصلاح وحصول الفساد .
العبرة فى مناط الأحكام هو الأحوال الغالبة .

       الرابع : أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساويا لضده معضودا بمرجح من جنسه ،
                  مثل تغريم الذى يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه .

       الخامس : أن يكون أحدهما منضبطا محققا والأخر مضطربا .

       وقال  صلي الله عليه وسلم : 
             (لا يبع بعضكم على بيع بعض) .
 وتفسير قول رسول الله (صلي الله عليه وسلم)  : ( إنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه
إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب ، ونحو هذا مما يعرف به أن البائع
 قد أراد مبايعة السائم فهذا الذى نهى عنه .

 ولو ترك الناس السوم عند أول ما يسوم بها أخذت بشبه الباطل فى الثمن ودخل الباعة فى سومهم المكروه ) .

       قال عز الدين بن عبد السلام :
 قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد :
 أن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها معروفة بالضرورات ، والتجارب والعادات والظنون المعتبرات ،
 فإن خفى شئ من ذلك طلب من أدلته ، فمن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها و مرجوحها فليعرض ذلك
على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبن عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد به عباده
 ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته .

       قد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه المفضول ولكنه قليل .

  مثال  فضل اجتماع المصالح والمفاسد :
 أن الحجر على المريض فيما زاد على ثلث ماله مضرة له ومفسدة تلحقه لكنه مصلحة لورثتهم فقدم حق ورثته فى ثلثى ماله .

 وأن وضع يد غير المالك على الملك مفسدة للمالك ، ولذلك وجب الضمان بالإتلاف
 ولم تعتبر هذه المفسدة فى تصرفات الحكام إذا أخطأوا فى الاجتهاد فى الحكم فلم يجب الغرم على الحاكم
 تقديما لمصلحة إقدام القضاة على مفسدة المحكوم عليه خطأ .

      المنهيات كلها مشتملة على المفاسد .
      باعتبار مقادير المفاسد جعل الصحابة عقوبة اللوطيين (بصيغة التثنية)
الرجم مساوية عقوبة الزانى المحصن سواء كانا محصنين أم لم يكونا محصنين ؛
 لأنهم وجدوا مفسدة ذلك أشد والعذر عن فاعله أبعد .
وجعل على بن أبى طالب عقوبة شارب الخمر مساوية حد القذف لما رأى القذف مظنة لازمة للسكران غالبا .

      عقوبة الحرابة جعلت أشد من عقوبة قتل الغيلة فى التنكيل وعدم قبول العفو
 (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) وجعل قتل الغيلة غير قابل للعفو من الأولياء .

 

ليست هناك تعليقات: