مقاصد الشريعة الإسلامية 18
مقاصد التشريع الخاصة بالمعاملات بين الناس
الملك والتكسب
5
الملك والتكسب
لإثراء الأمة وأفرادها طريقان : أحدهما
التملك ، والثانى التكسب .
فالتملك هو أصل الإثراء البشرى ،
وهو اقتناء
الأشياء التى يستحصل منها ما تسد به الحاجة بغلاته أو بأعواضه ، أى أثمانه .
والأصل الأصيل فى التملك الاختصاص ،
فقد
كان من أصول الحضارة البشرية أن يدأب المرء إلى تحصيل ما يحتاج إليه لتقويم أود
حياته وسلامته .
البنوك : جمع بنك كلمة فرنسية
مأخوذة من كلمة : بانكو فى اللغة اللاتينية
ومعناها محل جلوس للكتابة أو مجلس
مطلقا ، ثم أطلقت على المقعد الذى يتخذه الصيرفى لصرف النقود ،
ثم توسعوا فيه فصار
بمعنى الدار التى يشتغل فيها جماعة من الصيارفة للصرف ، وتحويل الحوالات التجارية
والسفاتج .
كانت أسباب التملك فى الشرع هى :
ـ الاختصاص بشئ لاحق لأحد فيه كإحياء
الموات .
ـ والعمل فى الشئ مع مالكه كالمغارسة .
ـ والتبادل بالعوض كالبيع والانتقال من
المالك إلى غيره كالتبرعات والميراث .
أصل الشريعة
فى تصرفات الناس فى أموالهم و مملوكاتهم هو :
إطلاق التصرف لهم للأحرار الرشداء منهم
فلا ينتقض ذلك الأصل إلا إذا كان المالك غير متأهل
لذلك التصرف وقصور
التصرف يكون لصبى أو سفه (أى : اختلال العقل فى التصرف المالى)
أو إفلاس مدين أو
عدم حرية أو حجر فى جميع المال ، أو بعضه فهذا فى التبرع مما ادعى الثلث من مريض
مرضا مخوفا ،
ومن تصرف معلق مما بعد الموت وهو الوصية ، وما يؤول إليها من تبرع ،
وتبرع ذات الزوج بما زاد على ثلث مالها .
أما التكسب فهو معالجة إيجاد ما
يسد الحاجة إما بعمل البدن أو بالمرضاة مع الغير .
وأصول
التكسب ثلاثة : الأرض ، والعمل ، ورأس المال .
للأرض المكانة الأولى فى هذه الأصول
الثلاثة .
أما العمل فهو وسيلة استخراج معظم منافع
الأرض .
وهو أيضا طريق لإيجاد الثروة بمثل الإيجار
والاتجار .
أما رأس المال فوسيلة لإدامة العمل
للإثراء ، وهو :
مال مدخر لإنفاقه فيما يجلب أرباحا وإنما عد رأس المال من أصول الثروة لكثرة
الاحتياج إليه .
المقصد الشرعى فى الأموال كلها خمسة أمور :
رواجها ، ووضوحها ، وحفظها ، وثباتها ،والعدل فيها .
فالرواج دوران المال بين أيدى
أكثر من يمكن من الناس بوجه حق .
وهو مقصد
عظيم شرعى دل عليه الترغيب فى المعاملة بالمال ومشروعية التوثق فى انتقال الأموال
من يد إلى أخرى .
قال النبى (صل الله عليه
وسلم) :
ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا
كان له به صدقة .
محافظة على مقصد الرواج
شرعت عقود المعاملات لنقل حقوق الملكية بمعاوضة أو
بتبرع وهى من قسم الحاجى كما تقدم .
تسهيلا للرواج
شرعت عقود
مشتملة على شئ من الغرر مثل : المغارسة و السلم والمزارعة والقراض .
حتى عدها بعض
علمائنا رخصا باعتبار أنها مستثناة من قاعدة الغرر ، وإن لم يكن فيها تغيير حكم من
صعوبة إلى سهولة لعذر .
لأجل مقصد الرواج
كان الأصل فى العقود
المالية اللزوم دون التخيير إلا بشرط .
من معانى
الرواج المقصود انتقال المال بأيد عديدة فى الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه .
تيسير دوران المال على آحاد الأمة وإخراجه
عن أن يكون قادرا فى يد واحدة متنقلا من واحد إلى واحد
مقصد شرعى ، فهمت الإشارة
إليه من قوله تعالى فى قسمة الفئ :
(كى لا يكون دولة
بين الأغنياء منكم) . فالدُولة بضم الدال تداول المال وتعاقبه أى :
كيلا يكون مال الفئ يتسلمه غنى من غنى .
أوجب الوصية للأقارب بأية :
(كتب عليكم
إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على
المتقين) .
ثم نسخ بشرع المواريث المبين فى القرآن والسنة ،
ولم يجعل لصاحب المال حق فى صرفه بعد موته إلى فى ثلث ماله أن يوصى به لغير وارث ،
فتم مقصد التوزيع بحكمة وهى جعل المال صائرا إلى قرابة صاحبه ؛ لأن ذلك مما لا
تشمئز منه نفسه ،
ولأن فيه عونا على حفظ المال فى دائرة القبيلة . وإنما تتكون
الأمة من قبائلها فيؤول إلى حفظه فى دائرة جامعة الأمة .
من وسائل رواج الثروة القصد إلى
استنفاد بعضها
وذلك بالنفقات الواجبة على الزوجات والقرابة فلم يترك ذلك
لإرادة القيم على العائلة بل أوجب الشرع عليه
الإنفاق بالوجه المعروف .
من طرق الاستنفاد نفقات التحسين و الترفه
،
وهى وسيلة عظيمة لانتفاع الطبقتين الوسطى والدنيا فى الأمة من أموال الطبقة
العليا .
وهى أيضا عون عظيم على ظهور مواهب أهل الصنائع والفنون فى تقديم نتائج
أذواقهم وأناملهم .
الشريعة لم تعمد إلى هذا النوع من
الاستنفاد بالطلب الحثيث اكتفاء بما فى النفوس من الباعث عليه .
من وسائل
رواج الثروة تسهيل المعاملات بقدر الإمكان وترجيح جانب ما فيها من المصلحة
على ما
عسى أن يعترضها من خفيف المفسدة .
الأصل فى سهولة الرواج يعتمد :
خفة
النقل ، وقبول طول الادخار ، ووفرة الرغبات فى التحصيل ، وتيسر التجزئة إلى أجزاء
قليلة .
أهم ما اصطلح عليه البشر
فى نظام حضارتهم المالية وضع النقدين أعواضا للتعامل .
التعامل بالنقدين أيسر من التعامل
بالأعيان من الأشياء من سائر الجهات .
إلا أن النقدين عند حالة الاضطرار مثل
حالة الحصار وحالة الجدب والمجاعة لا تغنى عن أصحابها شيئا ،
فالنقدان عوضان
صالحان بغالب أحوال البشر ، وهى أحوال الأمن واليسر والخصب .
من أحسن ما ظهر فيه مزية التعامل
بالنقدين أنه يمكن فيه تمييز البائع من المشترى ؛
فباذل النقد مشتر وباذل العوض
بائع .
كان كثير
من التعامل فى الإسلام فى عهد النبوة حاصلا بطريقة المعاوضة .
فلذلك كثرت المنهيات من بيع الأشياء بأمثالها ؛ لأن غالب تلك البيوع كان
يتطرقه الغرر والتغابن ،
ولعسر ضبط قيمة العوض ، ولكثرة اختلاف صفات وأنواع فى
الجودة والرداءة والجدة والقدم .
ظهر من هذا كله أن من مقاصد الشريعة تكثير
التعامل بالنقدين ليحصل الرواج بهما .
وما أحسب نهى رسول الله (صل الله عليه
وسلم) عن استعمال الرجال الذهب والفضة
إلا لحكمة تعطيل رواج النقدين بكثرة
الاقتناء المفضى إلى قلتهما .
أما وضوح
الأموال
فذلك إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر ؛ الإمكان ولذلك
شرع الإشهاد والرهن فى التداين.
أما حفظ
الأموال
فأصله قول الله تعالى : (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم).
وقول النبى (صل الله عليه وسلم) فى خطبة
حجة الوداع :
(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى
بلدكم هذا)
وقوله : (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) .
وقوله : (من قتل دون
ماله فهو شهيد)
وهو تنويه بشأن حفظ المال والمحافظة عليه وعظم إثم المعتدى عليه .
وإذا
كان ذلك حكم حفظ مال الأفراد فحفظ مال الأمة أجل و أعظم .
حق على ولاة
أمور الأمة و متصرفى مصالحها العامة
النظر فى حفظ الأموال العامة سواء تبادلها مع
الأمم الأخرى وبقاؤها بيد الأمة الإسلامية .
فمن
الأول : سن أساليب
تجارة الأمة مع الأمم الأخرى ،
ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد الأخرى كما
فى أحكام التجارة إلى أرض الحرب ،
وأحكام ما يتخذ من تجار أهل الذمة والحريين على
ما يدخلونه من السلع إلى بلاد الإسلام وأحكام الجزية والخراج .
ومن الثانى : نظام الأسواق
والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة .
وحق على من ولى مال أحد أن يحفظه ،وحق على كل أحد احترام مال غيره ؛
ولذلك تقرر
غرم المتلفات وجعل سببها الإتلاف ولم يلتفت فيها إلى نية الإتلاف ؛ لأن النية لا
أثر لها فى ذلك .
أما إثبات
الأموال فأردت به تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة .
فمقصد
الشريعة فى ثبات التملك والاكتساب أمور .
الأول : أن يختص المالك الواحد أو المتعدد بما تملكه بوجه
صحيح بحيث لا يكون فى اختصاصه به
وأحقيته تردد ولا خطر . فليس يدخل على أحد فى
ملكه منع اختصاصه إلى إذا كان لوجه مصلحة عامة .
الثانى : أن يكون صاحب المال حر التصرف فيما تملكه أو اكتسبه
تصرفا لا يضر بغيره ضرا معتبرا
ولا اعتداء فيه على الشريعة .
الثالث : أن لا ينتزع منه بدون رضاه
. إذا تعلق حق الغير بالمالك وامتنع من ادائه ألزم بأدائه .
ومن هنا جاء بيع
الحاكم والقضاء بالاستحقاق .
ولرعى هذا
المقصد كان المتصرف بشبهة فى عقار فائزا بغلاته التى استغلها إلى يوم الحكم عليه
بتسليم العقار لمن ظهر أنه مستحقه .
تقريرا لهذا المقصد قررت الشريعة التملك
الذى حصل فى زمان الجاهلية بأيدى من صار إليهم فى تلك المدة ومن انتقل إليهم منها
.
فقد قال رسول الله (صل الله عليه وسلم) : (أيما دار أو أرض قسمت فى الجاهلية فهى
على قسم الجاهلية ،
و أيما دار أو أرض أدركها الإسلام فلم تقسم فهى على قسم
الإسلام) .
العدل فيها
فذلك بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم ، وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها ،
وإما بعوض
مع مالكها أو تبرع ، وإما بإرث .
ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامة ودفع
الأضرار .
وذلك فيما
يكون من الأموال تتعلق به حاجة طوائف من الأمة لإقامة حياتها ، مثل الأموال التى
هى غذاء وقوت ،
والأموال التى هى وسيلة دفاع العدو عن الأمة مثل اللأمة و الآطام
بالمدينة فى زمن النبوة .
فتلك
الأموال وإن كانت خاصة بأصحابها إلا أن تصرفهم فيها لا يكون مطلق الحرية كالتصرف
فى غيرها .
فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر :
أنهم
كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبوءة فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه
حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام .
وكانوا يضربون على أن يبيعوه حتى يؤوه
إلى رحالهم ؛ ولذلك كان من الحق إبطال الاحتكار فى الطعام .
وفى الموطأ
أن عمر بن الخطاب قال :
(لا حكرة فى سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى
رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ،
ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده
فى الشتاء والصيف ، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء وليملك كيف شاء ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق