مقاصد الشريعة الإسلامية 1
من أعظم ما
اشتمل عليه خلق الإنسان خلق قبوله التمدن الذى أعظمه وضع الشرائع له .
الشرائع كلها وبخاصة شريعة الإسلام جاءت
لما فيه صلاح البشر فى العاجل و الآجل
أى فى حاضر الأمور وعواقبها .وليس المراد بالآجل أمور الآخرة ؛
لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم فى الآخرة ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على
الأحوال التى كانوا عليها فى الدنيا .
فهذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما
اتفق لمجرد إدخال الناس تحت سُلطة الدين،
بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام
مصالحهم في الدين والدنيا معا، وروعي في كل حُكم منها:
إما حفظ شيء من الضروريات الخمس "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل،
والمال"،
التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح
الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة.
وإما حفظ شيء من الحاجيات؛ كأنواع المعاملات، التي لولا ورودها على الضروريات لوقع
الناس في الضيق والحرج.
وإما حفظ شيء من التحسينات، التي ترجع إلى مكارم الاخلاق ومحاسن العادات.
وإما تكميل نوع من الأنواع الثلاثة بما يُعين على تحققه.
ولا يخلو بابٌ من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه
المصالح،
وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها.
إنتصاب الشارع للتشريع
إن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) هو الإمام الأعظم ، والقاضى الأحكم ، و المفتى الأعلم ،
فهو إمام الأئمة وقاضى القضاة
وعالم العلماء .
فما من منصب دينى إلا وهو متصف به فى أعلى رتبة ،
غير أن غالب تصرفه (صلي الله عليه وسلم)
بالتبليغ ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه
ثم تقع تصرفاته : منها ما يكون بالتبليغ
والفتوى إجماعا ، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ،
ومنها ما يجمع
الناس على أنه بالإمامة ،
ومنها ما يختلف فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا ؛
فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى .
ثم تصرفاته (صلي الله عليه وسلم) بهذه الأوصاف
تختلف آثارها فى الشريعة ،
فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان حكما عاما
على الثقلين إلى يوم القيامة ،
فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه
وكذلك المباح ، وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه .
وكل
ما تصرف فيه بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام ؛
لأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضى
ذلك .
وما تصرف فيه بوصف القضاء لا يجوز
لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم ؛
لأن السبب الذى لأجله تصرف فيه بوصف القضاء
يقتضى ذلك .
فهذه الفروق بين هذه القواعد الثلاث ،
وتحقق ذلك بثلاث مسائل :
المسألة الأولى : بعث الجيوش ،
وصرف أموال بيت المال فى جهاتها ، وجمعها من محالها ،
وتولية الولاة ، وقسمة
الغنائم . فمتى فعل رسول الله (صلي الله عليه
وسلم) من ذلك شيئا علمنا أنه تصرف فيه
بطريق الإمامة دون غيرها .
ومتى فصل بين اثنين فى دعاوى الأموال و أحكام
الأبدان ونحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها فنعلم
أنه إنما تصرف فى ذلك
بالقضاء دون الإمامة .
وكل ما تصرف
فيه بالعبادات بقوله أو فعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر دينى ، فهذا التصرف
بالفتوى والتبليغ ،
فهذه المواطن لا خفاء فيها .
وأما مواضع الخفاء والتردد ففى بقية
المسائل ، وهى :
المسألة الثانية : قوله عليه
الصلاة والسلام (من أحيا أرضا ميتة فهى له)
اختلف العلماء فى هذا القول : هل هو
تصرف بالفتوى فيجوز لكل أحد أن يحيى أرضا ولو لم يأذن له الإمام ؟
وهذا قول مالك
والشافعى ، أو هو تصرف بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيى إلا بإذن الإمام ؟ وهو مذهب
أبى حنيفة .
المسألة الثالثة : قول رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لهند بنت عتبة زوج
أبى سفيان لما قالت له :
(إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى وولدى ما يكفينا ) فقال
لها : (خذى من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) .
اختلف العلماء : هل هذا التصرف بطريق
الفتوى فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به ،
أو هو تصرف
بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء
قاض !؟
:تنبيه
من أحوال رسول الله (صل الله عليه وسلم)
التى يصدر عنها قول منه أو فعل اثنى عشر حالا وهى :
التشريع -الفتوى - القضاء - الإمارة - الهدى - الصلح -
الإشارة على المستشير .
النصيحة - تكميل النفوس -
تعليم الحقائق العالية - التأديب - والتجرد عن الإرشاد .
فوائد :1-
كل تصرف كان بغير حضور خصمين فليس بقضاء
مثل ما فى حديث هند بنت عتبة المتقدم .
2-
الفتوى والقضاء كلاهما تطبيق للتشريع . ويكونان فى الغالب لأجل المساواة
بين الحكم التشريعى
والحكم التطبيقى .
3- التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته حتى حصر أحواله فيه فى قوله
تعالى :
(وما محمد إلا رسول) آل عمران : 144 .
فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر
عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) من الأقوال والأفعال
صادرا مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك .
الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية
المقاصد الشرعية نوعان : معان حقيقية ،
ومعان عرفية عامة .
ويشترط فى جميعها أن يكون ثابتا ظاهرا منضبطا
مطردا .
فأما المعانى الحقيقة فهى التى
لها تحقق فى نفسها بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها ،
أى تكون جالبة نفعا عاما أو ضررا عاما ، إدراكا مستقلا عن التوقف على معرفة عادة
أو قانون ،
كإدراك كون العدل نافعا وكون الاعتداء على النفوس ضارا وكون الأخذ على
يد الظالم نافعا لصلاح المجتمع
أما المعانى العرفية العامة فهى
المجربات التى ألفتها نفوس الجماهير واستحسنتها استحسانا ناشئا عن تجربة .
ملاءمتها
لصلاح الجمهور كإدراك كون الإحسان معنى ينبغى تعامل الأمة به ،
وكإدراك كون عقوبة
الجانى رادعة إياه عن العود إلى مثل جنايته ، ورادعة غيره عن الإجرام
وكون ضد ذينك
يؤثر ضد أثريهما ، وإدراك كون القذارة تقتضى التطهر .
وقد اشترط لهذين النوعين الثبوت ،
والظهور ، والانضباط ، والاطراد .
فالمراد بالثبوت
أن تكون تلك المعانى مجزوما بتحققها أو مظنونا ظنا قريبا من الجزم .
المراد بالظهور
الاتضاح بحيث لا يختلف الفقهاء فى تشخيص المعنى ولا يلتبس على معظمهم بمشابهة ،
مثل حفظ النسب الذى هو المقصد من مشروعية النكاح فهو معنى ظاهر ، ولا يلتبس بحفظه
الذى يحصل بالمخادنة
أو...: إلصاق المرأة البغى الحمل الذى تعلقه برجل معين ممن
ضاجعوها .
المراد بالانضباط
ان يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه بحيث يكون القدر الصالح منه
لأن
يعتبر مقصدا شرعيا قدرا غير مشكك ، مثل حفظ العقل إلى القدر الذى يخرج به العاقل
عن تصرفات العقلاء
الذى هو المقصد من مشروعية التعزير بالضرب عند الإسكار .
المراد بالاطراد
أن لا يكون المعنى مختلفا باختلاف أحوال الأقطار والقبائل و الاعصار ،
مثل وصف
الإسلام ، والقدرة على الإنفاق فى تحقيق مقصد الملاءمة للمعاشرة المسماة بالكفاءة
المشروطة
فى النكاح فى قول مالك وجماعة من الفقهاء ، بخلاف التماثل فى الإثراء أو
فى القبيلية .
قد تتردد معان بين كونها صلاحا تارة
وفسادا أخرى ، أى بأن اختل منها وصف الاطراد .
فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصد شرعية
على الإطلاق ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعى فيها
أن توكل إلى نظر علماء
الأمة وولاة أمورها الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد ليعينوا لها
الوصف
الجدير بالاعتبار فى أحد الأحوال دون غيره .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق