التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 7
ظواهر التعالم :
6- الانتحال : وقد بلغ سوء الحال إلي انتحال كتب ورسائل برمتها ومنها تنتيف الكتب بمعني أخذ بحث في موضوع من كتاب، وإفراده بالطبع، ويرسم علي طرته تأليف فلان دون الإشارة علي الغلاف بأنه مستل من كتاب كذا ( انظر في هذه المسألة بالتفصيل فقه النوازل لبكر ابو زيد ومعجم المؤلفات المنحولة له أيضا رحمه الله تعالي )
7- نفخ الكتاب بالترف العلمي والتطويل : الذي ليس فيه من طائل، بل هو كالضرب في حديد بارد، وهذا بعد ثورة الإنتاج الطباعي تحت شعار التحقيق ، بحيث يكون الأصل لو وضع في ظرف لوسعه، ثم يأتي محضر النصوص باسم التحقيق ويزيد في الكتاب فيترجم للأعلام والمشاهير من صحابة وتابعين وعلماء ويعرفون للأماكن المشهورة كمة والمدينة ، مما هو تحصيل حاصل لا يستفيد منه الناظر في موضوع الكتاب بل إن سوالبه أكثر :
منها : بذل جهد من الوقت والعناء لا فائدة من وراءه
ومنها : قطع همم القراء عن جرد الكتاب.
ومنها : تأخير ظهوره مطبوعا، وإثقال طلاب العلم بثمن دون مردود علمي.
8- دعوي العلم والتحقيق : ضريبة الثراء المشبوه في أقل أحواله والجاه الموهوم في جل أحواله ، فيسوق المريض به داء الغرور ، إلي دعوي العلم والتحقيق، وبذل جهود في خدمة التراث، وإحياء مآثر الأسلاف ؟
فهذا يبذل من ماله، وذاك يبذل من جاهه، لمن لزمه الإعدام مع علمه، ليحقق له كتابا أو يحضر له مؤلفا ويرسم علي طرته بلا حياء تحقيق فلان أو تحقيق ودراسة فلان والله يعلم إنه لكاذب. ومن وراء هذين الصنفين صنف ثالث، مفلس من المال والجاه والعلم ( خزينته أصفار، وخزانته بلا أسفار) وهزائم لا تعرف العزائم يسعي من أثقلته، لبناء مجد موهوم ، فيسرق كتاب هذا ، ويشتري جهد ذاك ويخرج للناس عشرات المؤلفات وهو مفلس منكود، ومفتضح منبوذ
9- الصعقة الغضبية ، وهي تلك الخلة من بعض ، من أخذته شره الشباب، وسطوته في : تعالم ، ورياء، وعجب، وكبرياء، وإعلان لضعف ميراثه من هدي النبوة في أدب الحديث، والمجالسة، وإنزال النناس منازلهم.
وبيانه: أن بعض من هذه حاله ، من مبتدئ في الطلب، أو من عفي علي معلوماته الزمن، تجده يلتقط المسألة ، والمسألتين، ويحبر النظر فيها فيتنمر بها في المجالس ، وفي مواجهة من لا يعشرهم، ليظهر فضل علم لديه، ويمتحن الأشياخ علي يديه.. في مقاصد هزيلة .
وكم في الحضور من يمقته ويقليه، ويبغضه ويشنيه وقد جرب علي هذا الصنف أنه لا ينشر له القبول في الأرض، ثقيل الظل في الطول والعرض، مجالسته حمي الربع، ورؤيته جذع في العين، وحديثه سمج وبمثله رزق الصمت المحبة . أعان الله أرضا أقلته، ورحم الله تربة وارته
فاحذر أن تكون هذا : لمبلس، المفلس.
...............................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 8
ظواهر التعالم :
10- شغف المبتدئين بالتأليف: والبداية مزلة، وهذا عين تشيخ الصحفية، فتراه يخوض غمار التأليف فيما وصل إليه الأكابر، بعد قطع السنين، في مثافنة الأشياخ، ومسك الدفاتر ، ثم يأتي هذا المجذوب الطري ، ويثافن مؤلفاتهم ...
والمطابع تفرز كل يوم لنا رزما وقراطيس.
إن لم يكن هذا هو الاحتراق في الغرور، فما أدري له سببا سواه، فنعوذ بالله من هذه الفتنة الصماء .
وأنصح نفسي وإخواني بالجد في الطلب، وتحرير المسائل، وضبط الأصول، وجرد المطولات، وكثرة التلقي، والدأب في التحصيل وأن لا يشغل المرء نفسه بالتأليف في مثاني الطلب قبل التأهل له، فإن التأليف في هذه المرحلة يقطع سبيل العلم والتعلم، ويعرض المرء فيه نفسه قبل نضوجها.
والتأليف المقبول لابد أن يكون بقلم من اتسعت مداركه، وطال جده وطلبه، والصنعة بصانعها الحاذق، ومعلمها البارع .
11- التجنس اللغوي: ومنه الانحلال اللغوي، من كرائم لغة العرب إلي لوثة العجمة، حتي إن الخاطر ليرد علي الخاطر، فيقول: هل هذا المتعالم متقلب في أرحام حنظلية، أم من أصلاب فارسية، وهل هو نبطي حقيقة، عربي تجوزا.
وهذا القطيع : هو لغنيمة الباردة للشعوبية الأغتام يمتطونه في دعواتهم لتهجين اللسان في الدعوة إلي :
(أ) الشعر الحر
(ب) إحياء اللهجات العامية
(ت) تغيير الرسم القرآني
(ث) تغيير الأرقام العربية
(ج) إشاعة المولد في وسائل الإعلام
(ح) تنزيل لغة الجرائد في مدونات أهل الإسلام
(خ) تشييد الحواجز عن كتب المواد للسان العرب
فعلي أهل العلم والإيمان : المحافظة علي هذا اللسان، بالدعوة إليه وكف الدخيل عنه والابتعاد عن دعوات الشعوبية الأغتام وهذه الوجهة لن يتعاصي فهمها علي القراء متي كانوا كذلك – وهم الذين يساق إليهم الحديث- ، وأما من كانت وسائل الإعلام سماعا وقراءة، سميره وهجيراه، فاستعاض بالمقهي عن المعهد، وبالجريدة عن الكتاب وبالمناقشات الرياضية عن المذكرات العلمية، فأني له ذلك ؟
............................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 9
ظواهر التعالم :
12- إثبات الشخصية في الرسائل: وهذه من أسوأ ظواهر التعالم ولهذا تري الراسائل محشورة سطورها بهذه العبارات السمجة: ترجحينا، اختيارنا، رأينا ، ونحن نرفض هذا القول، ونحن نري، ونحن لا نؤيد هذا الرأي، وهذا الحديث صحيح، وذاك الحديث ضعيف .. وهككذا في بلاء متناسل .
والمناقش يأتي وقد اتردي الجبة أوالعباءة السوداء وهذا تقليد كنسي في مناقشة الرسائل، يجب علي أهل العلم والإيمان مخالفتهم فيه
13- التزيد في الكلام: وهذا من تشبع المرء بما لم يعط، والتزيد آفة تجر إلي الوضع، وهو آخية الكذب، بل هو عينه وقد أحسن من قال :
لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
14- ومن المتعالمين الغنادر : جمع غندر وهو المشاغب، المتطاول بلسانه، الوارث لما لا يورث، من التسلط علي العباد بداء الفحش والبذاء المحروم من ميراث الأنبياء
والمتطاول كبت الله باطله ، يسل لسانه علي العباد فيتقيه المؤمنون، ويترفعون عن منازلته ، فتكون العاقبة لهم فيرتفع شأنهم عليه، ومن تعجيل العقوبة له : تخلفه عن أقرانه في القيمة الأدبية رغم تحرقه، وشدة تطلعه .
ولطرفة بن العبد :
وإن لسان المرء مالم يكن له حصاة علي عوراته لدليل
وفيهم وفي إخوان لهم يقول ابن القيم رحمه الله تعالي :
( ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأي أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا، والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يري محارم الله تنتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس! كما ان المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جري علي الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وُسعه ...)هذه جملة من ظواهر التعالم في عدد من من علوم الشريعة ينبه بها علي غيرها مما لم يذكر
......................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 10
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
1- إخلاص النية لله تعالي :
لا يُوصف العمل بالقبول شرعا إلا إذا توفر ركناه: ( الإخلاص والمتابعة )
فالإخلاص : أن يكون لله تعالي ، لا نصيب لغير الله فيه متمحضا من شوب الإرادة لغيره.
والمتابعة: ويقال الصواب : أن يكون مما شرعه الله علي لسان رسوله محمد صلي الله عليه وسلم.
فشوب النية : يُورث الرياء والشرك .
وشوب المتابعة: يُورث المعصية والبدعة
وقد حث السلف على تصحيح النية في الطلب والبعد عن ابتغاء الشهرة، وعرض الدنيا ، ونيل المناصب، والحصول علي الوظائف ...
فهذه إرادات تُحطم قوته وتطفئ نوره
ومن أقوالهم :
ما صدق الله عبد أحب الشهرة
ينبغي للعالم أن يتكلم بنية، وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء .
وقال أحدهم : أُصبت ببصري ، وأظن أني عُوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة
واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم ، وسوء القصد، ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم، واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فمن خلصت نيته في الحق ولو علي نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله..
...........................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 11
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
2- في أن العالم لا يُتبع بزلته ولايُؤخذ بهفوته
ففي حديث البخاري لما بركت بالنبي صلي الله عليه وسلم القصواء فقال الناس خلأت القصواء فقال النبي صلي الله عليه وسلم :" ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل "
قال الحافظ ابن حجر : فيه جواز الحكم علي الشئ بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره ، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويُرد علي من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلي الله عليه وسلم علي ذلك لعذرهم في ظنهم.
فقد أعذر النبي صلي الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولي إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولي بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها استصحابا للأصل، وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نُهينا أن يكون أحدنا عوناً للشيطان علي أخيه.
قال الصنعاني رحمه الله تعالي : وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب.
وقد تتابعت كلمة العلماء في الاعتذار عن الأئمة فيما بدر منهم، وإن ما يبدوا من العالم من هنات لا تكون مانعة للاستفادة من علمه وفضله
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالي : ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه ، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسي محاسنه، نعم: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك .
وقال الذهبي في ترجمة باني مدينة الزهراء بالأندلس : وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد، احتملت له هنات، وحسابه علي الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد، وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد .
..............................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 12
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
3- في الزجر عن حمل الشواذ وغثاثه الرخص:
قال الطحاوي رحمه الله تعالي : ( ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة)
وقد صاح بهذا الضرب جلة العلماء، وأبانوا أن من منازل العبودية الأخذ بالعزائم والرخص الشرعية أما المفتعلة فهي عن الشرع بمعزل عن عزائمه ورخصه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالي : ( ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين ، وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين. وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإّذا انضافت الأقوال الباطلة إلي الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية)
وقال الذهبي رحمه الله تعالي : في دخولات إسماعيل القاضي علي المعتضد العباسي :
( ودخلت مرة فدفع إلي كتابا، فنظرت فيه فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت : مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت : بلي ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن أخذ بكلل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق )
وتجد الأقوال مجوعة في هذا الموضوع في رسالة : (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء) وفي كتاب : ( السعادة العظمي) مبحث مهم
فالحذر ياعبد الله : أن تبني مجدك وحياتك علي العز الكاذب، بنشر الشذوذ والترخص الفاسد مبررا للواقع الآثم سعيا وراء الحظ الزائل، فقد نزل أناس عن كراسي العزة وزالوا، وكأنهم ما كانوا وبقيت وقائعهم علي اختلاف طبقاتهم قصصا تتلي للاعتبار
...................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 13
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
4- في التوقي من الغلط علي الأئمة في أقوالهم ومذاهبهم:
وقد حصل لي تتبع أشياء قد جمعتها في رسالة باسم : ( كشف الأجلة عن الغلك علي الأئمة)
هذا في الفقهيات وغيرها، وأما في السنن فقد بينته ولله الحمد في الأصول العامة من :
( التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل)
ومن أمثلة هذه الأغاليط:
• شهرة النسبة إلي الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالي من القول : بجواز تولي المرأة القضاء في غير الحدود.
وهذا غلط عليه في مذهبه، وصحة قوله: أن الإمام إذا ولي المرأة القضاء، أثم، ونفذ قضاؤها إلا في الحدود.
فأصل التولية عنده المنع.
• شهرة النسبة إلي مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالي القول بالإرسال في الصلاة. وهذا غلط عليه في فهم عبارة المدونة وخلاف منصوصه المصرح به في الموطأ: القبض. وقد كشف عن هذا جمع من المالكية، وغيرهم في مؤلفات مفردة، تقارب ثلاثين كتابا، سوي الأبحاث التابعة والشروح والمطولات.
• واشتهر في مذهب الشافعي رحمه الله تعالي : القول بالتلفظ بالنية للصلوات. وهذا غلط عليه في فهم قوله :((الصلاة ليست كغيرها من العبادات فلا تدخل إلا بذكر) ففهم منه أتباع مذهبه ( التلفظ بالنية) والمراد بالذكر في قوله هو تكبيرة الإحرام
• ومن الغلط الذي تتابع عليه الأكابر : نسبة القول بفناء النار إلي الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالي وقد صرح في بعض المواضع بدوامها، وفي بعضها حكي وأحال الترجيح إلي من كان السمع بجانبه، وهو القول بدوامها؟
• ومنه من وجه آخر أن النحاة أوردوا قولهم ( لا تأكل السمك وتشرب اللبن) لبيان حكم إعرابي، فانتقلت هذه الجملة إلي حقيقة معناها، كأنه حديث صحيح، أو رسم طبيب، فكم تحامي الجمع بينهما من أجيال ..
وقد رأيناهما يقدمان علي موائد المترفين، والمهتمين في هذه الحياة برعاية أبدانهم، ومن الأطباء من ينصح بالجمع بينهما والله أعلم.
• ومن موجبات الغلط علي الأئمة رحمهم الله تعالي أن نري العالم يقرر المسألة، وينظر لها بعدد في مسائل يذكرها للتعضيد فهذه الفروع المذكورة استطرادا لا يمثل التعضيد بها، الرأي البات له فيها، ولهذا قالوا : سياق العالم للشئ في غير مساقه، لا يعتبر رأيا له.
• ومن موجبات الغلط علي الأئمة رحمهم الله تعالي عدم التفريق بين كلامهم في مجال التقرير ومجال النقض ، فالكلام في النقض يحتاج إلي توسع للرد علي الشبه، أما في مجال التقرير والبيان فالسلف قصروا ذلك علي موارد النصوص الثابتة.
..........................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 14
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
5- فصل الخصام بين داعي الدليل وداعي التقليد:
كم وقعت المماظة، والمخصامة بين هذين الداعيين فليعلم أن التجريح بغير حق لا يجوز، ورفض الدليل محرم لا يسوغ، والوسط الحق: الأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة العلم والدين في القديم والحديث
فقول داعي التقليد : إن الإمام مع مقلده كالنبي مع أمته هذا عين التعصب والهوي.
وقول داعي الدليل : إن الدليل للمسلم المسلم هدي النبي صلي الله عليه وسلم لأمته هذا عين الحق والهدي .
فيرفض من الأول غض النظر عن الدليل
ولا يرد في الثاني مسلك الوقيعة في أئمة العلم والدين
فيتخرج المذهب الحق، والقول الصدق، والطريق السوي، والمشرع الروي : الأخذ بالدليل مع إجلال أئمة العلم والدين ولا عصمةلإمام سوي سيد البشر صلي الله عليه وسلم وحيث يوجد الدليل ، يكون هو مذهب ذلكم الإمام كما صرح به كل واحد من الأربعة المشهورين
وبهذا يظهر فساد قول أبي الحسن الكرخي من الحنفية :
( كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ)
وبطلان قول من أبصر أنوار الدليل فلم تنفتح لها بصيرته لتعصبه المذهبي فقال : (لم أخالفه حيا فلا أخالفه ميتا)
والمنصف يلتزم قول الإمام مالك رحمه الله تعالي:
( ما منا إلا من رد أو رد عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلي قبر النبي صلي الله عليه وسلم
وقد استكبرت ما سوده العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية) في معرض نعيه علي القصرين في عدم الالتفات إلي ما يحف بأحوال التشريع فقال : ( وفي هذا المقام ظهر تقصير الظاهرية والمحدثين المقتصرين في التفقه علي الآثار . وظهر بطلان ما روي عن الشافعي من أنه قال( إذا صح الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مذهبي ) إذ مثل هذا لا يصدر عن عالم مجتهد، وشواهد أقوال الشافعي في مذهبه تقضي بأن هذا الكلام مكذوب أو محرف عليه ..) انتهي
وقد فات الشيخ رحمه الله تعالي أن تلك المقولة الميمونة ( إذا صح الحديث فهو مذهبي) قد ثبتت بلفظها أو بمعناها بألفاظ متعددة عن الأئمة الأربعة المشهورين
فسبحان من صرف فهم هذا الأستاذ مع جلالته إلي هذا الوجه من التأويل المتعسف المنكود؟
.......................................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 14
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
6- في جُرم القول علي الله بلا علم :
إن التعالم هو عتبة الدخول علي القول علي الله تعالي بلا علم، بل : إن التعالم، والشذوذ، والترخص، والتعصب كلها منافذ تؤدي إلي جرم القول علي الله تعالي بلا علم
قال الله تعالي في سورة الأعراف -33
" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ "
فهذه المحرمات الأربع تحريمها لذاتها تحريما أبديا في جميع الشرائع والملل، ومراتب الشدة فيها في الآية الكريمة علي سبيل التعلي فقال الله سبحانه:
" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" هذا أولها.
ثم ذكر سبحانه ماهو أعظم فقال سبحانه : " وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ"
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم فقال سبحانه : " وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا"
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم فقال : " وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ"
إذ القول علي الله تعالي بلا علم هو أصل الشرك والكفر والبدع المضلة والفتن الجائرة
وهذا مبسوط في إعلام الموقعين لابن القيم ج1 38 -39، 43-44، ج2 165-168، 260 ، ج4 173- 174
وفي إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص 158
ومدارج السالكين لابن القيم ج1 372- 374
والداء والدواء ص 209- 210
وانظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج4 ص 17
انتهي الكتاب
( إيهاب) رحم الله المؤلف بكر بن عبد الله أبو زيد ما أروع كتبه وددت أن الكتاب لا ينتهي ولي ملاحظات أحب أن أذكرها هنا قبل أن أغادر إلي كتاب آخر وهي :
1- لا يكفي قراءة كلام بكر أبو زيد بل يجب دراسته
2- ينبغي لطالب العلم استقراء منهج بكر أبو زيد والتعلم منه في غير ما ذكر من مسائل
3- إحالات بكر أبو زيد كلها مهمة فلقد كان عالم موسوعي لا أظن أن لدينا الآن مثله
4- لا تغتر بقلة الورقات وقلة الكلمات التي تحدث فيها الشيخ عن أي مسألة فهذا خلاصة الكلام وهذا هو الرحيق المختوم والرجل علي طريقة السلف لا يتكلم إلا فيما يفيد ويتكلم علي قدر الحاجة
5- أدب الشيخ أحد أسرار نبوغه ومن مظاهر أدبه رحمه الله تعالي أنه لم يمر بعالم إلا وترحم عليه وهذا أدب مع العلماء رحمهم الله تعالي جميعا ، ثم إنه لم يكن يكتفي بقوله رحمه الله بل كان مواظبا علي قوله رحمه الله تعالي وهذا أدب مع الله تعالي اللهم أرحم وارفع درجة عبدك بكر أبو زيد كما فقهته في دينك وأدبته بأدبك
6- الحديث عن الفوائد التي يمكن لمرء أن يجنيها من كلام العلامة بكر أبو زيد يطول ولعل الله ييسره في موطن آخر
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين
ظواهر التعالم :
6- الانتحال : وقد بلغ سوء الحال إلي انتحال كتب ورسائل برمتها ومنها تنتيف الكتب بمعني أخذ بحث في موضوع من كتاب، وإفراده بالطبع، ويرسم علي طرته تأليف فلان دون الإشارة علي الغلاف بأنه مستل من كتاب كذا ( انظر في هذه المسألة بالتفصيل فقه النوازل لبكر ابو زيد ومعجم المؤلفات المنحولة له أيضا رحمه الله تعالي )
7- نفخ الكتاب بالترف العلمي والتطويل : الذي ليس فيه من طائل، بل هو كالضرب في حديد بارد، وهذا بعد ثورة الإنتاج الطباعي تحت شعار التحقيق ، بحيث يكون الأصل لو وضع في ظرف لوسعه، ثم يأتي محضر النصوص باسم التحقيق ويزيد في الكتاب فيترجم للأعلام والمشاهير من صحابة وتابعين وعلماء ويعرفون للأماكن المشهورة كمة والمدينة ، مما هو تحصيل حاصل لا يستفيد منه الناظر في موضوع الكتاب بل إن سوالبه أكثر :
منها : بذل جهد من الوقت والعناء لا فائدة من وراءه
ومنها : قطع همم القراء عن جرد الكتاب.
ومنها : تأخير ظهوره مطبوعا، وإثقال طلاب العلم بثمن دون مردود علمي.
8- دعوي العلم والتحقيق : ضريبة الثراء المشبوه في أقل أحواله والجاه الموهوم في جل أحواله ، فيسوق المريض به داء الغرور ، إلي دعوي العلم والتحقيق، وبذل جهود في خدمة التراث، وإحياء مآثر الأسلاف ؟
فهذا يبذل من ماله، وذاك يبذل من جاهه، لمن لزمه الإعدام مع علمه، ليحقق له كتابا أو يحضر له مؤلفا ويرسم علي طرته بلا حياء تحقيق فلان أو تحقيق ودراسة فلان والله يعلم إنه لكاذب. ومن وراء هذين الصنفين صنف ثالث، مفلس من المال والجاه والعلم ( خزينته أصفار، وخزانته بلا أسفار) وهزائم لا تعرف العزائم يسعي من أثقلته، لبناء مجد موهوم ، فيسرق كتاب هذا ، ويشتري جهد ذاك ويخرج للناس عشرات المؤلفات وهو مفلس منكود، ومفتضح منبوذ
9- الصعقة الغضبية ، وهي تلك الخلة من بعض ، من أخذته شره الشباب، وسطوته في : تعالم ، ورياء، وعجب، وكبرياء، وإعلان لضعف ميراثه من هدي النبوة في أدب الحديث، والمجالسة، وإنزال النناس منازلهم.
وبيانه: أن بعض من هذه حاله ، من مبتدئ في الطلب، أو من عفي علي معلوماته الزمن، تجده يلتقط المسألة ، والمسألتين، ويحبر النظر فيها فيتنمر بها في المجالس ، وفي مواجهة من لا يعشرهم، ليظهر فضل علم لديه، ويمتحن الأشياخ علي يديه.. في مقاصد هزيلة .
وكم في الحضور من يمقته ويقليه، ويبغضه ويشنيه وقد جرب علي هذا الصنف أنه لا ينشر له القبول في الأرض، ثقيل الظل في الطول والعرض، مجالسته حمي الربع، ورؤيته جذع في العين، وحديثه سمج وبمثله رزق الصمت المحبة . أعان الله أرضا أقلته، ورحم الله تربة وارته
فاحذر أن تكون هذا : لمبلس، المفلس.
...............................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 8
ظواهر التعالم :
10- شغف المبتدئين بالتأليف: والبداية مزلة، وهذا عين تشيخ الصحفية، فتراه يخوض غمار التأليف فيما وصل إليه الأكابر، بعد قطع السنين، في مثافنة الأشياخ، ومسك الدفاتر ، ثم يأتي هذا المجذوب الطري ، ويثافن مؤلفاتهم ...
والمطابع تفرز كل يوم لنا رزما وقراطيس.
إن لم يكن هذا هو الاحتراق في الغرور، فما أدري له سببا سواه، فنعوذ بالله من هذه الفتنة الصماء .
وأنصح نفسي وإخواني بالجد في الطلب، وتحرير المسائل، وضبط الأصول، وجرد المطولات، وكثرة التلقي، والدأب في التحصيل وأن لا يشغل المرء نفسه بالتأليف في مثاني الطلب قبل التأهل له، فإن التأليف في هذه المرحلة يقطع سبيل العلم والتعلم، ويعرض المرء فيه نفسه قبل نضوجها.
والتأليف المقبول لابد أن يكون بقلم من اتسعت مداركه، وطال جده وطلبه، والصنعة بصانعها الحاذق، ومعلمها البارع .
11- التجنس اللغوي: ومنه الانحلال اللغوي، من كرائم لغة العرب إلي لوثة العجمة، حتي إن الخاطر ليرد علي الخاطر، فيقول: هل هذا المتعالم متقلب في أرحام حنظلية، أم من أصلاب فارسية، وهل هو نبطي حقيقة، عربي تجوزا.
وهذا القطيع : هو لغنيمة الباردة للشعوبية الأغتام يمتطونه في دعواتهم لتهجين اللسان في الدعوة إلي :
(أ) الشعر الحر
(ب) إحياء اللهجات العامية
(ت) تغيير الرسم القرآني
(ث) تغيير الأرقام العربية
(ج) إشاعة المولد في وسائل الإعلام
(ح) تنزيل لغة الجرائد في مدونات أهل الإسلام
(خ) تشييد الحواجز عن كتب المواد للسان العرب
فعلي أهل العلم والإيمان : المحافظة علي هذا اللسان، بالدعوة إليه وكف الدخيل عنه والابتعاد عن دعوات الشعوبية الأغتام وهذه الوجهة لن يتعاصي فهمها علي القراء متي كانوا كذلك – وهم الذين يساق إليهم الحديث- ، وأما من كانت وسائل الإعلام سماعا وقراءة، سميره وهجيراه، فاستعاض بالمقهي عن المعهد، وبالجريدة عن الكتاب وبالمناقشات الرياضية عن المذكرات العلمية، فأني له ذلك ؟
............................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 9
ظواهر التعالم :
12- إثبات الشخصية في الرسائل: وهذه من أسوأ ظواهر التعالم ولهذا تري الراسائل محشورة سطورها بهذه العبارات السمجة: ترجحينا، اختيارنا، رأينا ، ونحن نرفض هذا القول، ونحن نري، ونحن لا نؤيد هذا الرأي، وهذا الحديث صحيح، وذاك الحديث ضعيف .. وهككذا في بلاء متناسل .
والمناقش يأتي وقد اتردي الجبة أوالعباءة السوداء وهذا تقليد كنسي في مناقشة الرسائل، يجب علي أهل العلم والإيمان مخالفتهم فيه
13- التزيد في الكلام: وهذا من تشبع المرء بما لم يعط، والتزيد آفة تجر إلي الوضع، وهو آخية الكذب، بل هو عينه وقد أحسن من قال :
لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
14- ومن المتعالمين الغنادر : جمع غندر وهو المشاغب، المتطاول بلسانه، الوارث لما لا يورث، من التسلط علي العباد بداء الفحش والبذاء المحروم من ميراث الأنبياء
والمتطاول كبت الله باطله ، يسل لسانه علي العباد فيتقيه المؤمنون، ويترفعون عن منازلته ، فتكون العاقبة لهم فيرتفع شأنهم عليه، ومن تعجيل العقوبة له : تخلفه عن أقرانه في القيمة الأدبية رغم تحرقه، وشدة تطلعه .
ولطرفة بن العبد :
وإن لسان المرء مالم يكن له حصاة علي عوراته لدليل
وفيهم وفي إخوان لهم يقول ابن القيم رحمه الله تعالي :
( ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأي أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا، والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يري محارم الله تنتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس! كما ان المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جري علي الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وُسعه ...)هذه جملة من ظواهر التعالم في عدد من من علوم الشريعة ينبه بها علي غيرها مما لم يذكر
......................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 10
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
1- إخلاص النية لله تعالي :
لا يُوصف العمل بالقبول شرعا إلا إذا توفر ركناه: ( الإخلاص والمتابعة )
فالإخلاص : أن يكون لله تعالي ، لا نصيب لغير الله فيه متمحضا من شوب الإرادة لغيره.
والمتابعة: ويقال الصواب : أن يكون مما شرعه الله علي لسان رسوله محمد صلي الله عليه وسلم.
فشوب النية : يُورث الرياء والشرك .
وشوب المتابعة: يُورث المعصية والبدعة
وقد حث السلف على تصحيح النية في الطلب والبعد عن ابتغاء الشهرة، وعرض الدنيا ، ونيل المناصب، والحصول علي الوظائف ...
فهذه إرادات تُحطم قوته وتطفئ نوره
ومن أقوالهم :
ما صدق الله عبد أحب الشهرة
ينبغي للعالم أن يتكلم بنية، وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء .
وقال أحدهم : أُصبت ببصري ، وأظن أني عُوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة
واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم ، وسوء القصد، ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم، واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فمن خلصت نيته في الحق ولو علي نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله..
...........................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 11
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
2- في أن العالم لا يُتبع بزلته ولايُؤخذ بهفوته
ففي حديث البخاري لما بركت بالنبي صلي الله عليه وسلم القصواء فقال الناس خلأت القصواء فقال النبي صلي الله عليه وسلم :" ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل "
قال الحافظ ابن حجر : فيه جواز الحكم علي الشئ بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره ، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويُرد علي من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلي الله عليه وسلم علي ذلك لعذرهم في ظنهم.
فقد أعذر النبي صلي الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولي إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولي بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها استصحابا للأصل، وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نُهينا أن يكون أحدنا عوناً للشيطان علي أخيه.
قال الصنعاني رحمه الله تعالي : وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب.
وقد تتابعت كلمة العلماء في الاعتذار عن الأئمة فيما بدر منهم، وإن ما يبدوا من العالم من هنات لا تكون مانعة للاستفادة من علمه وفضله
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالي : ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه ، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسي محاسنه، نعم: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك .
وقال الذهبي في ترجمة باني مدينة الزهراء بالأندلس : وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد، احتملت له هنات، وحسابه علي الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد، وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد .
..............................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 12
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
3- في الزجر عن حمل الشواذ وغثاثه الرخص:
قال الطحاوي رحمه الله تعالي : ( ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة)
وقد صاح بهذا الضرب جلة العلماء، وأبانوا أن من منازل العبودية الأخذ بالعزائم والرخص الشرعية أما المفتعلة فهي عن الشرع بمعزل عن عزائمه ورخصه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالي : ( ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين ، وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين. وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإّذا انضافت الأقوال الباطلة إلي الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية)
وقال الذهبي رحمه الله تعالي : في دخولات إسماعيل القاضي علي المعتضد العباسي :
( ودخلت مرة فدفع إلي كتابا، فنظرت فيه فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت : مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت : بلي ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن أخذ بكلل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق )
وتجد الأقوال مجوعة في هذا الموضوع في رسالة : (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء) وفي كتاب : ( السعادة العظمي) مبحث مهم
فالحذر ياعبد الله : أن تبني مجدك وحياتك علي العز الكاذب، بنشر الشذوذ والترخص الفاسد مبررا للواقع الآثم سعيا وراء الحظ الزائل، فقد نزل أناس عن كراسي العزة وزالوا، وكأنهم ما كانوا وبقيت وقائعهم علي اختلاف طبقاتهم قصصا تتلي للاعتبار
...................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 13
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
4- في التوقي من الغلط علي الأئمة في أقوالهم ومذاهبهم:
وقد حصل لي تتبع أشياء قد جمعتها في رسالة باسم : ( كشف الأجلة عن الغلك علي الأئمة)
هذا في الفقهيات وغيرها، وأما في السنن فقد بينته ولله الحمد في الأصول العامة من :
( التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل)
ومن أمثلة هذه الأغاليط:
• شهرة النسبة إلي الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالي من القول : بجواز تولي المرأة القضاء في غير الحدود.
وهذا غلط عليه في مذهبه، وصحة قوله: أن الإمام إذا ولي المرأة القضاء، أثم، ونفذ قضاؤها إلا في الحدود.
فأصل التولية عنده المنع.
• شهرة النسبة إلي مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالي القول بالإرسال في الصلاة. وهذا غلط عليه في فهم عبارة المدونة وخلاف منصوصه المصرح به في الموطأ: القبض. وقد كشف عن هذا جمع من المالكية، وغيرهم في مؤلفات مفردة، تقارب ثلاثين كتابا، سوي الأبحاث التابعة والشروح والمطولات.
• واشتهر في مذهب الشافعي رحمه الله تعالي : القول بالتلفظ بالنية للصلوات. وهذا غلط عليه في فهم قوله :((الصلاة ليست كغيرها من العبادات فلا تدخل إلا بذكر) ففهم منه أتباع مذهبه ( التلفظ بالنية) والمراد بالذكر في قوله هو تكبيرة الإحرام
• ومن الغلط الذي تتابع عليه الأكابر : نسبة القول بفناء النار إلي الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالي وقد صرح في بعض المواضع بدوامها، وفي بعضها حكي وأحال الترجيح إلي من كان السمع بجانبه، وهو القول بدوامها؟
• ومنه من وجه آخر أن النحاة أوردوا قولهم ( لا تأكل السمك وتشرب اللبن) لبيان حكم إعرابي، فانتقلت هذه الجملة إلي حقيقة معناها، كأنه حديث صحيح، أو رسم طبيب، فكم تحامي الجمع بينهما من أجيال ..
وقد رأيناهما يقدمان علي موائد المترفين، والمهتمين في هذه الحياة برعاية أبدانهم، ومن الأطباء من ينصح بالجمع بينهما والله أعلم.
• ومن موجبات الغلط علي الأئمة رحمهم الله تعالي أن نري العالم يقرر المسألة، وينظر لها بعدد في مسائل يذكرها للتعضيد فهذه الفروع المذكورة استطرادا لا يمثل التعضيد بها، الرأي البات له فيها، ولهذا قالوا : سياق العالم للشئ في غير مساقه، لا يعتبر رأيا له.
• ومن موجبات الغلط علي الأئمة رحمهم الله تعالي عدم التفريق بين كلامهم في مجال التقرير ومجال النقض ، فالكلام في النقض يحتاج إلي توسع للرد علي الشبه، أما في مجال التقرير والبيان فالسلف قصروا ذلك علي موارد النصوص الثابتة.
..........................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 14
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
5- فصل الخصام بين داعي الدليل وداعي التقليد:
كم وقعت المماظة، والمخصامة بين هذين الداعيين فليعلم أن التجريح بغير حق لا يجوز، ورفض الدليل محرم لا يسوغ، والوسط الحق: الأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة العلم والدين في القديم والحديث
فقول داعي التقليد : إن الإمام مع مقلده كالنبي مع أمته هذا عين التعصب والهوي.
وقول داعي الدليل : إن الدليل للمسلم المسلم هدي النبي صلي الله عليه وسلم لأمته هذا عين الحق والهدي .
فيرفض من الأول غض النظر عن الدليل
ولا يرد في الثاني مسلك الوقيعة في أئمة العلم والدين
فيتخرج المذهب الحق، والقول الصدق، والطريق السوي، والمشرع الروي : الأخذ بالدليل مع إجلال أئمة العلم والدين ولا عصمةلإمام سوي سيد البشر صلي الله عليه وسلم وحيث يوجد الدليل ، يكون هو مذهب ذلكم الإمام كما صرح به كل واحد من الأربعة المشهورين
وبهذا يظهر فساد قول أبي الحسن الكرخي من الحنفية :
( كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ)
وبطلان قول من أبصر أنوار الدليل فلم تنفتح لها بصيرته لتعصبه المذهبي فقال : (لم أخالفه حيا فلا أخالفه ميتا)
والمنصف يلتزم قول الإمام مالك رحمه الله تعالي:
( ما منا إلا من رد أو رد عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلي قبر النبي صلي الله عليه وسلم
وقد استكبرت ما سوده العلامة محمد الطاهر بن عاشور في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية) في معرض نعيه علي القصرين في عدم الالتفات إلي ما يحف بأحوال التشريع فقال : ( وفي هذا المقام ظهر تقصير الظاهرية والمحدثين المقتصرين في التفقه علي الآثار . وظهر بطلان ما روي عن الشافعي من أنه قال( إذا صح الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مذهبي ) إذ مثل هذا لا يصدر عن عالم مجتهد، وشواهد أقوال الشافعي في مذهبه تقضي بأن هذا الكلام مكذوب أو محرف عليه ..) انتهي
وقد فات الشيخ رحمه الله تعالي أن تلك المقولة الميمونة ( إذا صح الحديث فهو مذهبي) قد ثبتت بلفظها أو بمعناها بألفاظ متعددة عن الأئمة الأربعة المشهورين
فسبحان من صرف فهم هذا الأستاذ مع جلالته إلي هذا الوجه من التأويل المتعسف المنكود؟
.......................................................
التعالم وأثره علي الفكر والكتاب 14
حماية طالب العلم من هذه الأدواء :
6- في جُرم القول علي الله بلا علم :
إن التعالم هو عتبة الدخول علي القول علي الله تعالي بلا علم، بل : إن التعالم، والشذوذ، والترخص، والتعصب كلها منافذ تؤدي إلي جرم القول علي الله تعالي بلا علم
قال الله تعالي في سورة الأعراف -33
" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ "
فهذه المحرمات الأربع تحريمها لذاتها تحريما أبديا في جميع الشرائع والملل، ومراتب الشدة فيها في الآية الكريمة علي سبيل التعلي فقال الله سبحانه:
" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" هذا أولها.
ثم ذكر سبحانه ماهو أعظم فقال سبحانه : " وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ"
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم فقال سبحانه : " وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا"
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم فقال : " وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ"
إذ القول علي الله تعالي بلا علم هو أصل الشرك والكفر والبدع المضلة والفتن الجائرة
وهذا مبسوط في إعلام الموقعين لابن القيم ج1 38 -39، 43-44، ج2 165-168، 260 ، ج4 173- 174
وفي إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص 158
ومدارج السالكين لابن القيم ج1 372- 374
والداء والدواء ص 209- 210
وانظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج4 ص 17
انتهي الكتاب
( إيهاب) رحم الله المؤلف بكر بن عبد الله أبو زيد ما أروع كتبه وددت أن الكتاب لا ينتهي ولي ملاحظات أحب أن أذكرها هنا قبل أن أغادر إلي كتاب آخر وهي :
1- لا يكفي قراءة كلام بكر أبو زيد بل يجب دراسته
2- ينبغي لطالب العلم استقراء منهج بكر أبو زيد والتعلم منه في غير ما ذكر من مسائل
3- إحالات بكر أبو زيد كلها مهمة فلقد كان عالم موسوعي لا أظن أن لدينا الآن مثله
4- لا تغتر بقلة الورقات وقلة الكلمات التي تحدث فيها الشيخ عن أي مسألة فهذا خلاصة الكلام وهذا هو الرحيق المختوم والرجل علي طريقة السلف لا يتكلم إلا فيما يفيد ويتكلم علي قدر الحاجة
5- أدب الشيخ أحد أسرار نبوغه ومن مظاهر أدبه رحمه الله تعالي أنه لم يمر بعالم إلا وترحم عليه وهذا أدب مع العلماء رحمهم الله تعالي جميعا ، ثم إنه لم يكن يكتفي بقوله رحمه الله بل كان مواظبا علي قوله رحمه الله تعالي وهذا أدب مع الله تعالي اللهم أرحم وارفع درجة عبدك بكر أبو زيد كما فقهته في دينك وأدبته بأدبك
6- الحديث عن الفوائد التي يمكن لمرء أن يجنيها من كلام العلامة بكر أبو زيد يطول ولعل الله ييسره في موطن آخر
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين